الرأي

مسز كاهل وأكواب البيض

صالح عبدالله بوقري
في صبيحة يوم لا ينساه التاريخ كان الراديو في سيارتي يكرر خبرا عن مجموعة احتلت الحرم الشريف في مكة المكرمة! كنت أستعجل الوصول إلى المكتب لتسليم جواز سفري لإدارة التدريب في المؤسسة لتقديمه للسفارة الأيرلندية للحصول على تأشيرة مع مجموعة من الزملاء، اختارنا قسم التسويق لبرنامج تدريبي لم يتكرر نستعد للسفر للمرحلة الأولى من برنامج مديري الفروع للمؤسسة في الخارج، بعد أن مرت المجموعة بأصناف متعددة من الاختبارات الفنية والنفسية قلما تطبقها مؤسسة على منسوبيها. كان ذلك قبل تربع الواسطة في الترفيع والمحسوبية في الاختيار والشللية في الترقية.

استقبلنا المعهد في مطار دبلن بجمهورية أيرلندا في يوم ربيعي من أيام أبريل 1980 وطاف بنا مدير المعهد على الأسر التي التحقنا للسكن معهم لمدة ثلاثة أشهر للبدء في برنامج اللغة الإنجليزية الذي صمم للعمل الإداري والفني لمديري الفروع.

كان نصيب كل واحد منا أسرة أيرلندية هيأت بيتها لاستقبال الطلاب الذين يأتون للدراسة في هذه المدينة الجميلة التي حافظت حتى وقت قريب على أخلاق الريف وحلاوته، إلى جانب حياة المدينة المنظمة.

استقبلتني السيدة كاهل بترحاب وحميمية وكانت فيما يبدو في الستين من عمرها وساعدتني في نقل أمتعتي لغرفتي التي كانت تطل على الحديقة الخلفية، حيث كنت أشترك في حمامها الخارجي مع ابنها الأكبر إدوارد وكنا نناديه (إدي) تحببا، وأذكر كيف كنت أسعى لأسبقه إلى الحمام في الصباح قبل ذهابي للمعهد لأن إدي إذا دخل الحمام لا يخرج إلا بعد أن يغني ويصفر ويدخن وكنت لو تجرأت ودقيت عليه أستعجله يرفع عقيرته بالغناء.

وقامت السيدة كاهل يوم وصولي بتقديمي لأفراد أسرتها المكونة من زوجها مارك وولديها وابنتها فالاري التي كان يسميها الزملاء (احتراما) أخت البوقري.

عرفت خلال إقامتي مع هذه الأسرة التي كنت محظوظا بها مقارنة بمعظم الأسر التي التحق بها زملائي حجم العداء بين الشمال البروتستنتي والجنوب الكاثوليكي حتى إن مارك رب العائلة - وكنا جميعا نناديه داد - قال لي مرة: إن كرهنا للبروتستانت يعادل كره العرب للإسرائيليين الذين اغتصبوا فلسطين.

أكتب عن هذه الذكريات التي أيقظها في مخيلتي كتيب وجدته صدفة في مكتبتي وهو دليل لحركة الحافلات في مدينة دبلن كنا نشتريه بعشرين بنسا يحتوي الخرائط والمسارات وأرقام الهواتف عندما كانت google map في علم الغيب.

من طرائف ما أذكر أن طالبا سبقني في السكن كان قد أهدى مسز كاهل دلة القهوة العربية وكانت تحتفظ بها مع كثير من المقتنيات والتحف النحاسية والزجاجية والمصنوعات الخشبية التي تجعل من بيتها أشبه بالمتحف، وعندما أراد كمال أحد زملائي في البرنامج أن يشكرها على ضيافتها له ليلة تركه للعائلة التي كان يسكن معها بسبب سوء معاملتهم له، أحضر لها في إحدى زياراته لجدة مجموعة فناجين القهوة لإكمال الشكل مع الدلة التي لفتت نظره، وترك كمال هذه الهدية عندي في طريقه من المطار إلى سكن أسرته الجديدة الذي أبدلتها إدارة المعهد، ونظرا لتأخر السيدة كاهل وكنت أستعد للنوم وضعت فناجيل القهوة في المطبخ، ولكن قبل أن أنام فاجأتني مسز كاهل التي حملت علبة الهدية إلى باب غرفتي تسألني ما هذا؟

قلت: هذه هدية لك من كمال.. أجابت: هذا لطف منه

قلت: هل تعرفين ما هي

قالت: نعم! وكنت أشك أنها عرفت

قلت: إذن قولي ما هي؟

قالت: (بتأفف) قلت لك أعرف!

قلت: إذن قولي ما هي؟

قالت: بثقة أهل الريف وبراءتهم: هي أكواب البيض المسلوق!

أعترف أني كلما اجتهدت أو حاولت أن أكتب في مرات عديدة عن شخصية وأخلاق هذه السيدة التي عشت مع أسرتها ثلاثة أشهر أشعر دائما بالعجز أن أوفيها وأسرتها حقهم لما وجدته من كرم ومحبة واهتمام ما زلت ممتنا لهم به وقلما وجدته من أحد في ترحالي الطويل، وما هذه العجالة إلا دليل العاجز عن الوفاء.