البصيرة قبل المنهج
الجمعة / 10 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 20:45 - الجمعة 19 فبراير 2016 20:45
كان زكي نجيب محمود كاتبا بيانيا آسرا، إذا أنشأ فصلا في المقالة الأدبية، فإنه يستهويك بجمال أسلوبه، وإحكام لغته، ولا تكاد تظهر فيما يكتبه الرجل، وهو الفيلسوف والمنطقي، على طفرة في المصطلحات يتخذها فزاعة يوهم الناس بها بالعلم والمنهج، ولكنه يصل إلى قارئه هينا ليِّنا، ويبني الفصل الذي يعالجه على قصة عاشها، أو حادث مر به، أو خبر قرأه، فإذا كان له ذلك، أخذ بيد قارئه إلى الغاية التي يريد بلوغها، وهكذا كان شأنه في الفصول التي أدارها على الشعر والنقد، وله فيهما غير كتاب.
تحمس فيلسوف الوضعية المنطقية لفلسفته التي آمن بها، ولمدرسة النقد الجديد التي استجلب مناهجها، ولكنك تقرأ له نقدا كتبه بلسان عربي مبين، لا يعتري عبارته غموض ولا التواء. والحق أنني ألفيت قدرا صالحا من النقد السديد فيما أنشأه نقاد كبار، يختلفون فيما بينهم في المنازع والغايات، ولا أزال، على طول العهد، أجد في ما كتبه عبدالعزيز المقالح وعبدالله الغذامي وسعيد السريحي ويمنى العيد، بصرا بالأدب والنقد، فهؤلاء النقاد، مهما اختلفت مشاربهم، لا يزالون مسكونين بتلك المَلَكة الخفية التي ندعوها «الذوق»، فهم، حين يكتبون، يصدرون عن خبرة بالنقد، وبصيرة بالأدب، وهم، حين يلوذون بالمنهج، إنما يومئون إلى أسس فلسفية عملت عملها في عقولهم، فإذا ما كتبوا كانت لغتهم أدنى صلة إلى معاني الأدب وروحه، وأنت تدرك ذلك، من قبل، في نقد الأساتذة الكبار، فشكري عياد ولطفي عبدالبديع ومصطفى ناصف – في كتبه الأولى - وهم ما هم، لا يميلون إلى تلك الشقشقات اللفظية، ولا المنازع المدرسية التي يدَّعي، اليوم، كثير من النقد أنه جاء لردّها ودفعها. نقد ذلك الجيل من الأساتذة مختلف عما صرنا نراه شائعا في كتب أولع أصحابها بشكلية طغت على كل ما سواها، وتخفي، تحت اللبوس الذي تدرعت به، عجزا عن مواجهة النصوص الأدبية، وربما كان مبعث ذلك العجز، أن أولئك الدارسين نشؤوا ولا صلة لهم بالآثار الأدبية الصحيحة، فإذا قرؤوا فإنما تكون قراءتهم خطفا يعيدون ويبدئون القول في أبيات لا تباين شواهد البلاغة، إلا في أن هذه قديمة وتلك حديثة، فإذا اطَّرحتَ تلك الحشود من الكلم المصطلحي وأعرضتَ عنها، وأخذتَ نفسك بتأمل ما اتصل بنقد الأدب، إذا بك ولا شيء إلا ذبالة لا تكاد تجلِّي نصا، ولا تضيء فهما، وتخرج من تلك الصفحات ولا أثر في ذاكرتك إلا تشقيقات ينبو كثير منها عن صحيح الكلم ومعهود الاشتقاق، وتصبح كمن أدرك النور بعد أن أطبقت عليه ظلمات من الغبش، أما ما كمن في نظريات النقد من أصول فلسفية، فلا أحسب أن من أعجزه الوفاء لما انقطع إليه من درس اللغة والأدب، بقادر على أن يجلو لنا شيئا من تلك الأصول، مهما حاول كثير منهم صرف أعيننا عما هم فيه، بكلم ملتو، لا يكشف بصرا، ولا يجلو علما، هذا ومعظم ما تناثر في سوق الكتاب من هذه الكتب إنما هو حصيلة سنة أو تزيد، يبحث فيها طالب أراد الظفر بشهادة عالية في «الأدب والنقد»، حتى إذا أجيزت، دفع بها إلى المطبعة، فخرجت في عنوان خلاب، وغلاف رائع، فإذا قلَّبت تلك الصفحات، وأنشأت تقرأ طرفا منها، فأغلب الظن أنك لن تفوز بفهم صحيح للأدب والنقد، فكل حصيلة ذلك الكتاب، الذي كان في يوم ما رسالة عالية، كلمات تتزيَّا بزي العلم، وتكرر ما سيق في رسائل أخرَ سابقات، إلا ما كان نادرا، وذلك النادر عزيز المنال.
تحمس فيلسوف الوضعية المنطقية لفلسفته التي آمن بها، ولمدرسة النقد الجديد التي استجلب مناهجها، ولكنك تقرأ له نقدا كتبه بلسان عربي مبين، لا يعتري عبارته غموض ولا التواء. والحق أنني ألفيت قدرا صالحا من النقد السديد فيما أنشأه نقاد كبار، يختلفون فيما بينهم في المنازع والغايات، ولا أزال، على طول العهد، أجد في ما كتبه عبدالعزيز المقالح وعبدالله الغذامي وسعيد السريحي ويمنى العيد، بصرا بالأدب والنقد، فهؤلاء النقاد، مهما اختلفت مشاربهم، لا يزالون مسكونين بتلك المَلَكة الخفية التي ندعوها «الذوق»، فهم، حين يكتبون، يصدرون عن خبرة بالنقد، وبصيرة بالأدب، وهم، حين يلوذون بالمنهج، إنما يومئون إلى أسس فلسفية عملت عملها في عقولهم، فإذا ما كتبوا كانت لغتهم أدنى صلة إلى معاني الأدب وروحه، وأنت تدرك ذلك، من قبل، في نقد الأساتذة الكبار، فشكري عياد ولطفي عبدالبديع ومصطفى ناصف – في كتبه الأولى - وهم ما هم، لا يميلون إلى تلك الشقشقات اللفظية، ولا المنازع المدرسية التي يدَّعي، اليوم، كثير من النقد أنه جاء لردّها ودفعها. نقد ذلك الجيل من الأساتذة مختلف عما صرنا نراه شائعا في كتب أولع أصحابها بشكلية طغت على كل ما سواها، وتخفي، تحت اللبوس الذي تدرعت به، عجزا عن مواجهة النصوص الأدبية، وربما كان مبعث ذلك العجز، أن أولئك الدارسين نشؤوا ولا صلة لهم بالآثار الأدبية الصحيحة، فإذا قرؤوا فإنما تكون قراءتهم خطفا يعيدون ويبدئون القول في أبيات لا تباين شواهد البلاغة، إلا في أن هذه قديمة وتلك حديثة، فإذا اطَّرحتَ تلك الحشود من الكلم المصطلحي وأعرضتَ عنها، وأخذتَ نفسك بتأمل ما اتصل بنقد الأدب، إذا بك ولا شيء إلا ذبالة لا تكاد تجلِّي نصا، ولا تضيء فهما، وتخرج من تلك الصفحات ولا أثر في ذاكرتك إلا تشقيقات ينبو كثير منها عن صحيح الكلم ومعهود الاشتقاق، وتصبح كمن أدرك النور بعد أن أطبقت عليه ظلمات من الغبش، أما ما كمن في نظريات النقد من أصول فلسفية، فلا أحسب أن من أعجزه الوفاء لما انقطع إليه من درس اللغة والأدب، بقادر على أن يجلو لنا شيئا من تلك الأصول، مهما حاول كثير منهم صرف أعيننا عما هم فيه، بكلم ملتو، لا يكشف بصرا، ولا يجلو علما، هذا ومعظم ما تناثر في سوق الكتاب من هذه الكتب إنما هو حصيلة سنة أو تزيد، يبحث فيها طالب أراد الظفر بشهادة عالية في «الأدب والنقد»، حتى إذا أجيزت، دفع بها إلى المطبعة، فخرجت في عنوان خلاب، وغلاف رائع، فإذا قلَّبت تلك الصفحات، وأنشأت تقرأ طرفا منها، فأغلب الظن أنك لن تفوز بفهم صحيح للأدب والنقد، فكل حصيلة ذلك الكتاب، الذي كان في يوم ما رسالة عالية، كلمات تتزيَّا بزي العلم، وتكرر ما سيق في رسائل أخرَ سابقات، إلا ما كان نادرا، وذلك النادر عزيز المنال.