لندع الفئران تتنبأ بمستقبلنا
الاثنين / 6 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 20:45 - الاثنين 15 فبراير 2016 20:45
في عام 1930 توقع أحد الاقتصاديين بأن التقدم الصناعي والتقني الذي تعيشه البشرية سيجعل كل فرد منا يعمل 3 ساعات في اليوم فقط من أجل أن يحقق حاجات معيشته. وإذا كنت تقرأ هذا المقال في فترة دوامك اليومية التي تمتد إلى 8 ساعات فلا حاجة لأن أخبرك بمدى صحة هذا التوقع. ولكن من المثير للدهشة أن أخبرك أن هذا الاقتصادي لم يكن سوى جون كينز، الأب المؤسس للاقتصاد الحديث وصاحب النظريات التي أنقذت الاقتصاد العالمي من الكساد الكبير الذي أفنى ثروات المجتمعات الصناعية خلال ثلاثينات القرن الماضي، والتي ما زالت مرجعا تستند إليه كثير من حكومات العالم إلى يومنا الحاضر في تخطيطها الاقتصادي. فكيف يمكن لعقلية بهذا الثقل في تاريخ حضارتنا البشرية أن تخطئ تنبؤاته بشكل يجعلها مثار التندر والسخرية من قبل العامة والمختصين على حد سواء.
نعيش حاليا في ظل متغيرات سياسية واقتصادية تدفع بالناس إلى البحث بنهم عن تنبؤات تفسر المستقبل وتطمئنهم إلى المصير الذي تتجه نحوه المنطقة. هل ستنكمش داعش؟ هل سيرتفع سعر البترول قبل نهاية السنة؟ هل سيفوز ترامب بالانتخابات الأمريكية؟ هل ستلتزم إيران بالاتفاق النووي؟ وغيرها من عشرات الأسئلة التي يتصدى لها الخبراء وغير الخبراء بتنبؤات فضفاضة تحمل لغة عائمة يمكن تفسيرها في كل اتجاه. فقط ابحث عن عبارة «أعتقد أن البترول» في تويتر لتجد مئات التوقعات التي تزيد حيرتك بدلا من أن تجيب على تساؤلاتك. فما الذي يجعل التنبؤات صعبة لهذه الغاية؟ ولماذا وجدت التجارب المختبرية أن الفئران أفضل من البشر في توقع الترتيب التي ستظهر به حزمة من المصابيح الحمراء والخضراء؟
أول قواعد التنبؤ تنص على أن الاستشراف الدقيق للمستقبل يعتمد على الفهم الكامل للحاضر والعوامل التي تعمل على تغيير هذا الحاضر، والاتجاه الذي يمضي نحوه هذا التغيير. ولكن العائق الذي يقف بيننا وبين تحقيق ذلك يكمن في الطريقة التي نفسر من خلالها المحيط حولنا. فنحن نفضل المعلومات السهلة والمختصرة التي نستطيع معالجتها دون تفكير عميق.. وإذا وجدنا أنفسنا في مواجهة سؤال معقد نقوم باستبداله بسؤال أسهل ظنا منا أن السؤالين يتطابقان في المعنى. فعلى سبيل المثال: من الصعب الإجابة عن هذا السؤال «هل سترتفع أسعار النفط بنهاية العام؟» ولكن من السهل الإجابة عن هذا السؤال «هل ستزيد إيران إنتاجها؟» لأننا نعتقد أن زيادة المنتجين هو العامل الوحيد الذي يحكم أسعار النفط ونتجاهل عوامل أخرى كالطلب والمنافسة والنمو الاقتصادي. كما أننا نفضل المعلومات الحاضرة في محيطنا وذاكرتنا لأننا نسترجعها بصورة أسرع ونهمل قدرا كبيرا من الأحداث التي لا تظهر في السطح مباشرة ولكنها تستطيع دفع عجلة المستقبل إلى الاتجاه المعاكس تماما. ونفضل أيضا المعلومات التي تتفق مع هوياتنا وما نريده من المستقبل ونتجاهل الأدلة التي تترك في حالة جدل مع أنفسنا ومعتقداتنا، بل نعمد إلى تفسير العالم بشكل يوافق طريقة تصورنا له.
ولأن فهم الواقع بصورة مطلقة يعد عملية معقدة ومكلفة نحاول الاكتفاء بفهم تقريبي ظنا منا أن بعض المعرفة بحاضرنا ستؤدي إلى بعض المعرفة بمستقبلنا وهو الخطأ المنطقي الذي يهمل قدرة أحداث بسيطة على إحداث فوضى عارمة. هذه الفوضى تفسرها نظرية أثر الفراشة التي تنص على أن أي اختلاف بسيط غير ملاحظ في الحالة الراهنة يتضاعف أثره مع مرور الوقت ويؤدي إلى مستقبل يختلف تماما عن الماضي الذي عشناه. فكل الذين شاهدوا احتراق البوعزيزي في تونس قبل 5 سنوات لم يخطر في بالهم أن هذا الفعل الرمزي سيقلب دولا على أعقابها ويؤدي إلى طوفان ستعيشه المنطقة لسنوات. ففي منظورهم لم يختلف الواقع.. لا ضعفت قبضة السلطة ولا زادت قوة الناس. ولكن الأحداث التي تلت ذلك التصرف اجتمعت كقطرات مطر مفترقة وانصبت في مجرى واحد وتضاعف أثرها لتصبح سيلا أغرق مدينة!
ومشكلتنا مع التنبؤات لا تتوقف عند الطريقة التي نصوغ فيها هذه التنبؤات بل تمتد إلى طريقة تفسيرنا لها. فمعظم خبراء التنبؤ الذين يحترمون قوانين مهنتهم يتبعون طريقة حذرة في إعلان توقعاتهم ويضعون عشرات الاشتراطات والاستثناءات وهو الأمر الذي لا يعجب العامة. فإذا لم تستطع أن تسرد فكرتك في 140 حرفا في تويتر أو 10 ثوان في سنابشات فلا أحد يملك الوقت للإنصات لكل ما تقوله أو ما يعنيه توقعك. فعلى سبيل المثال ما زال العالم يسخر من توقع الرئيس السابق لشركة مايكروسوفت ستيف بالمر حين قال بأن جهاز الايفون لن يحقق أي حصة سوقية مؤثرة، والأرقام تشير إلى أن حصة الايفون في سوق الهواتف لا تتجاوز 15% وهو الرقم الذي يمكن النظر إليه كحصة غير مؤثرة كما توقع بالمر.
وسبب هذا الاختلاف في تقييم التنبؤات أننا نخلط بين عاملين يشكلان مصداقية أي توقع، وهما: الصحة والدقة. فيمكنك بكل سهولة أن تتوقع بأن سوق الأسهم سيحقق أرباحا في المستقبل، وسيصبح توقعك صحيحا في أي لحظة تتحقق فيها هذه الأرباح ولو حدثت بعد عشرات السنين. ولكن ما يفتقده توقع كهذا هو عامل الدقة والذي يقتضي تعريف ما الذي تقصده بكلمتي «أرباح» و«مستقبل». فإذا أردت أن تصوغ توقعا دقيقا يجب أن تقول: أتوقع أن يحقق سوق الأسهم عائدا قدره 15% خلال سنة من الآن، وهي المخاطرة التي ستسهل على الناس تقييم توقعاتك ومحاسبتك عليها مباشرة دون أن تختبئ تحت غطاء لغة فضفاضة تقبل أي تفسير.
نحن نفضل..
1 .. المعلومات السهلة والمختصرة التي نستطيع معالجتها دون تفكير عميق
2 .. المعلومات الحاضرة في محيطنا وذاكرتنا لأننا نسترجعها بصورة أسرع ونهمل الأحداث التي لا تظهر في السطح مباشرة
3 .. المعلومات التي تتفق مع هوياتنا وما نريده من المستقبل ونتجاهل الأدلة التي تترك في حالة جدل مع أنفسنا ومعتقداتنا
ملاحظة:
نجح الأخطبوط بول في التنبؤ بنتائج كأس العالم لعام 2010 بشكل أدق من خبراء كرة القدم.
نعيش حاليا في ظل متغيرات سياسية واقتصادية تدفع بالناس إلى البحث بنهم عن تنبؤات تفسر المستقبل وتطمئنهم إلى المصير الذي تتجه نحوه المنطقة. هل ستنكمش داعش؟ هل سيرتفع سعر البترول قبل نهاية السنة؟ هل سيفوز ترامب بالانتخابات الأمريكية؟ هل ستلتزم إيران بالاتفاق النووي؟ وغيرها من عشرات الأسئلة التي يتصدى لها الخبراء وغير الخبراء بتنبؤات فضفاضة تحمل لغة عائمة يمكن تفسيرها في كل اتجاه. فقط ابحث عن عبارة «أعتقد أن البترول» في تويتر لتجد مئات التوقعات التي تزيد حيرتك بدلا من أن تجيب على تساؤلاتك. فما الذي يجعل التنبؤات صعبة لهذه الغاية؟ ولماذا وجدت التجارب المختبرية أن الفئران أفضل من البشر في توقع الترتيب التي ستظهر به حزمة من المصابيح الحمراء والخضراء؟
أول قواعد التنبؤ تنص على أن الاستشراف الدقيق للمستقبل يعتمد على الفهم الكامل للحاضر والعوامل التي تعمل على تغيير هذا الحاضر، والاتجاه الذي يمضي نحوه هذا التغيير. ولكن العائق الذي يقف بيننا وبين تحقيق ذلك يكمن في الطريقة التي نفسر من خلالها المحيط حولنا. فنحن نفضل المعلومات السهلة والمختصرة التي نستطيع معالجتها دون تفكير عميق.. وإذا وجدنا أنفسنا في مواجهة سؤال معقد نقوم باستبداله بسؤال أسهل ظنا منا أن السؤالين يتطابقان في المعنى. فعلى سبيل المثال: من الصعب الإجابة عن هذا السؤال «هل سترتفع أسعار النفط بنهاية العام؟» ولكن من السهل الإجابة عن هذا السؤال «هل ستزيد إيران إنتاجها؟» لأننا نعتقد أن زيادة المنتجين هو العامل الوحيد الذي يحكم أسعار النفط ونتجاهل عوامل أخرى كالطلب والمنافسة والنمو الاقتصادي. كما أننا نفضل المعلومات الحاضرة في محيطنا وذاكرتنا لأننا نسترجعها بصورة أسرع ونهمل قدرا كبيرا من الأحداث التي لا تظهر في السطح مباشرة ولكنها تستطيع دفع عجلة المستقبل إلى الاتجاه المعاكس تماما. ونفضل أيضا المعلومات التي تتفق مع هوياتنا وما نريده من المستقبل ونتجاهل الأدلة التي تترك في حالة جدل مع أنفسنا ومعتقداتنا، بل نعمد إلى تفسير العالم بشكل يوافق طريقة تصورنا له.
ولأن فهم الواقع بصورة مطلقة يعد عملية معقدة ومكلفة نحاول الاكتفاء بفهم تقريبي ظنا منا أن بعض المعرفة بحاضرنا ستؤدي إلى بعض المعرفة بمستقبلنا وهو الخطأ المنطقي الذي يهمل قدرة أحداث بسيطة على إحداث فوضى عارمة. هذه الفوضى تفسرها نظرية أثر الفراشة التي تنص على أن أي اختلاف بسيط غير ملاحظ في الحالة الراهنة يتضاعف أثره مع مرور الوقت ويؤدي إلى مستقبل يختلف تماما عن الماضي الذي عشناه. فكل الذين شاهدوا احتراق البوعزيزي في تونس قبل 5 سنوات لم يخطر في بالهم أن هذا الفعل الرمزي سيقلب دولا على أعقابها ويؤدي إلى طوفان ستعيشه المنطقة لسنوات. ففي منظورهم لم يختلف الواقع.. لا ضعفت قبضة السلطة ولا زادت قوة الناس. ولكن الأحداث التي تلت ذلك التصرف اجتمعت كقطرات مطر مفترقة وانصبت في مجرى واحد وتضاعف أثرها لتصبح سيلا أغرق مدينة!
ومشكلتنا مع التنبؤات لا تتوقف عند الطريقة التي نصوغ فيها هذه التنبؤات بل تمتد إلى طريقة تفسيرنا لها. فمعظم خبراء التنبؤ الذين يحترمون قوانين مهنتهم يتبعون طريقة حذرة في إعلان توقعاتهم ويضعون عشرات الاشتراطات والاستثناءات وهو الأمر الذي لا يعجب العامة. فإذا لم تستطع أن تسرد فكرتك في 140 حرفا في تويتر أو 10 ثوان في سنابشات فلا أحد يملك الوقت للإنصات لكل ما تقوله أو ما يعنيه توقعك. فعلى سبيل المثال ما زال العالم يسخر من توقع الرئيس السابق لشركة مايكروسوفت ستيف بالمر حين قال بأن جهاز الايفون لن يحقق أي حصة سوقية مؤثرة، والأرقام تشير إلى أن حصة الايفون في سوق الهواتف لا تتجاوز 15% وهو الرقم الذي يمكن النظر إليه كحصة غير مؤثرة كما توقع بالمر.
وسبب هذا الاختلاف في تقييم التنبؤات أننا نخلط بين عاملين يشكلان مصداقية أي توقع، وهما: الصحة والدقة. فيمكنك بكل سهولة أن تتوقع بأن سوق الأسهم سيحقق أرباحا في المستقبل، وسيصبح توقعك صحيحا في أي لحظة تتحقق فيها هذه الأرباح ولو حدثت بعد عشرات السنين. ولكن ما يفتقده توقع كهذا هو عامل الدقة والذي يقتضي تعريف ما الذي تقصده بكلمتي «أرباح» و«مستقبل». فإذا أردت أن تصوغ توقعا دقيقا يجب أن تقول: أتوقع أن يحقق سوق الأسهم عائدا قدره 15% خلال سنة من الآن، وهي المخاطرة التي ستسهل على الناس تقييم توقعاتك ومحاسبتك عليها مباشرة دون أن تختبئ تحت غطاء لغة فضفاضة تقبل أي تفسير.
نحن نفضل..
1 .. المعلومات السهلة والمختصرة التي نستطيع معالجتها دون تفكير عميق
2 .. المعلومات الحاضرة في محيطنا وذاكرتنا لأننا نسترجعها بصورة أسرع ونهمل الأحداث التي لا تظهر في السطح مباشرة
3 .. المعلومات التي تتفق مع هوياتنا وما نريده من المستقبل ونتجاهل الأدلة التي تترك في حالة جدل مع أنفسنا ومعتقداتنا
ملاحظة:
نجح الأخطبوط بول في التنبؤ بنتائج كأس العالم لعام 2010 بشكل أدق من خبراء كرة القدم.