الرأي

من دَبَّسَ على (بيرم التونسي)؟!

بعد النسيان

بين ما (يحبه) الجمهور وما (يحتاجه) شعرة؛ قد تكلف (النجم) ثلث عمره الستِّيني، من النفي والغربة والتشرد، كما وقع لأمير شعراء الزجل (محمود بيرم التونسي)، الذي لو لم يبدع سوى (القلب يعشق كل جميل)؛ لكفته شافعة نافعة رافعة، له ولأم كلثوم، ولرياض السنباطي، ولكل من عزف، وسجل، وصور، واستمع إلى هذه الفريدة!!

أحرق مطلع شبابه في الظل لصقل موهبته ذاتيا، واضطره (البخت الضايع) إلى التنقل بين عدة (صنايع)، إلى أن حوّش (خِلِوْ رجل) لشراء منزلٍ صغير، اكتشف بعد أن دفع (الطّعم) أنه مرهون للمجلس البلدي بسبب غرامات (متلتلة)!! يعني: (جت الحزينة تفرح ما لقتلهاش مطرح)! وانفجر رحم المعاناة عن قصيدة لاذعة، تنتهي كل أبياتها ـ تقريبا ـ بـ(المجلس البلدي)! ولأنها لامست هموم الشريحة العظمى من الشعب؛ فقد حققت، بمجرد نشرها في صحيفة محلية، انتشارا واسعا، عاد عليه بربح أتاح له أن ينشئ منشوره الخاص بمسمى: (المسلَّة ـ لا جريدة ولا مجلة)؛ ليتهرب من ملاحقة الرقابة للصحف والمجلات الصريحة!

وخلال أشهر كان مردودها كافيا لأن ينتقل إلى القاهرة، حيث كان (شاعر المجلس البلدي) على كل لسان، ومسلَّته في صدارة المطبوعات التي يتسابق إليها المثقفون والصحافيون ونجوم الفن والموسيقى، وفي مقدمتهم الشيخ (سيد درويش)، الذي لحن له أولى قصائده ومسرحياته الغنائية! ولكن سكرة النجومية دفعته لكتابة ما (يحبه) الجمهور من شائعات تمس عرض الملك (فؤاد) شخصيا! وكانت مقذعة جدا، لو قيلت في شخص عادي ـ لعن الله الشخصنة حيثما كانت ـ لقطَّعَه بأسنانه! لكن الملك اكتفى بنفيه، وظل ممنوعا من دخول مصر طيلة عهده!! لكنه دخل متنكرا بعد سنين، وكتب لصديقه (كامل الشناوي) ـ وكان شاعرا وصحافيا مقربا من البلاط ـ قصيدة كان حبرها ماء وجه (بيرم) كله؛ من أجل طفله وطفلته التي تركها في النفاس! فتغاضت عنه الحكومة، ولم تخبر الملك!! وكتب ـ باسم مستعارـ أشهر مسرحياته (شهرزاد)، ولحنها الشيخ (سيد)، وحققت نجاحا منقطع النظير!

وبعد (3) سنوات من الإبداع متخفيا، فوجئ بالشرطة تعتقله وتنفيه من جديد! ويعترف (بيرم) في مذكراته: أن الحكومة لم تحنث بـ(طناشها)، ولكن بعض زملاء المهنة وشى به في بلاغ رسمي!!