دار المعارف
حين نحب كتبًا بعينها، نحب من أجلها دور النشر التي نشرتها، والمطابع التي نضَّدتها، والمعامل التي جلَّدتها! وفي حياتي، وفي حياة كل قارئ مواظب على القراءة، كتب
الجمعة / 21 / ربيع الأول / 1437 هـ - 17:30 - الجمعة 1 يناير 2016 17:30
حين نحب كتبًا بعينها، نحب من أجلها دور النشر التي نشرتها، والمطابع التي نضَّدتها، والمعامل التي جلَّدتها! وفي حياتي، وفي حياة كل قارئ مواظب على القراءة، كتب أحببناها، وما إن نذكرها حتى نستعيد هيئة الغلاف، واسم الدار، وشعارها، وشكل الخط ونوعه، وتهبنا صلتنا الدائمة بتلك الكتب خبرة، فإذا بنا، بعد حين، نحلم أن ننشر كتابًا في هذه الدار أو تلك، ونحيي، إذ نفعل ذلك، ذكريات حبيبة كامنة في النفس، تجاه الكتب والثقافة والمعرفة، وربما تجاه زمن من العمر مضى وولَّى. أحببتُ في حياتي دور نشر عدَّة، عرفتُ دار العلم للملايين حين قرأت كتبا لمؤلفين أحبهم، وارتبطتْ أسماء عمر فروخ، وخير الدين الزركلي، ومنير البعلبكي، وصبحي الصالح، وبكري شيخ أمين بتلك الدار العريقة، وأذكر أنه كان يلفت نظري الخط الذي خُطَّتْ به كلمات العنوان، واسم المؤلف، وانطبع في عقلي هيئة الشعار، وشخصية الغلاف، وعرفتُ من الكتب التي نشرتها دور نشر لبنانية عريقة أسماء المحلات التي تقع فيها المطابع، ومعامل التجليد، عرفت، منذ الشباب الباكر، اسم حارة «حريك»، وأدركت أنها حارة المطابع في بيروت، وغار في ذاكرتي اسم أشهر مجلد في العالم العربي، وعرفت، قريبا، أنه أشهر مجلد في العالم، أعني «فؤاد بعينو»، حين ألفيت اسمه وشعاره ممهورين على غير كتاب من الكتب المجلدة تجليدا فاخرا، وإلى يومي هذا لا أزال أحمل في أعماقي حنينا رومنطيقيًّا ساذجا تجاه دار العلم للملايين، ودار صادر، ودار الثقافة في بيروت، ومكتبة الخانجي، ودار المعارف، ومطبعة المدني، ومكتبة مصطفى البابي الحلبي ومطبعتها في القاهرة، وحين رأيت في معرض جدة الدولي للكتاب 1437هـ ديوان ابن شهيد الأندلسي سارعت إلى شرائه، وحملني على ذلك أن الديوان رسالة علمية أشرف عليها المستشرق الفرنسي الكبير ريجيس بلاشير، وأن من نشرته دار لبنانية طالما اقترن اسمها في ذاكرتي بزمن أدبي رائع، وتلكم الدار هي «دار المكشوف». غير أنَّني لم أتعلق بدار نشر عربية، كما تعلقت بدار المعارف بالقاهرة، وربما أعدت ذلك إلى أنني حين اختلفت إلى الجامعة كانت جمهرة من الكتب التي ندرسها من إصدارات تلك الدار العريقة. فأنا لا أكاد أذكر اسم العلَّامة الكبير الدكتور شوقي ضيف إلا علق بذهني اسم دار المعارف، وهيئة كتبها، ومقاسها، وشكل الخط، وشعار الدار، وعلى كثرة كتب هذه الدار وشيوعها في مكتباتنا، لا يزال يشدني إليها حنين علمي، مبعثه عراقة هذه الدار، واتصالها بإحياء التراث العربي الإسلامي، وبعث الأدب العربي القديم، وأسماء جمهرة كبيرة من رواد النهضة العربية في مصر، فأهم دواوين الشعر العربي القديم، وأهم متون النقد، والفلسفة والتصوف أصدرته دار المعارف، وأجمل ما كتبه طه حسين، ومحمد حسين هيكل، وحسين فوزي، ومصطفى محمود، وعائشة عبدالرحمن هي التي نشرته، وحين أقصد القاهرة، أختلف إلى مكتبة دار المعارف في قلب البلد، وأمكث فيها ساعة أو تزيد، أتأمل في خزائنها أسماء مؤلفين طالما أنفقت الساعات والأيام في صحبتهم، هنا مؤلفات طه حسين، وإلى جواره مؤلفات محمد حسين هيكل، وشوقي ضيف، وفي تلك الناحية تقف سلسلة «ذخائر العرب» وكأنها تلخِّص تراثًا عظيمًا أحيته، وأجد السعادة كل السعادة حين أقف إزاء مؤلفات كامل الكيلاني وعادل الغضبان في أدب الأطفال، وأغبط ذلك الجيل من القراء الذين نُشِّئوا على حب البيان العربي، لأنهم قرؤوا لهذين الأديبين الكبيرين، وترقَّبوا مطلع كل شهر سلاسل دار المعارف «اقرأ»، و»نوابغ الفكر العربي»، و»نوابغ الفكر الغربي»، و»كتابك»، فتتصل أسبابهم بمنابع ثرة للثقافة العربية والأجنبية، فتقوى ملكتهم، وتمتن لغتهم، ويرقى تفكيرهم، ويستنير أفقهم. حين احتفلت مصر والعالم العربي معها بمرور مئة وخمسة وعشرين عامًا على إنشاء دار المعارف، بعث هذا الاحتفال في وجداني ذكرى حلوة عن أعرق ما اكتسبته في نشأتي العلمية، وأحسست قدرًا عظيمًا من الوفاء نحو هذه الدار، واستعدت فصولا من حياتي، أجدها، حين أستعيدها، تدور في فلك دار المعارف وسلاسلها الذهبية، وأسماء النخبة المصطفاة من مؤلِّفيها.
bafaqih.h@makkahnp.com