القيم الأخلاقية للنشاط الاقتصادي
أوضحت في المقال قبل السابق كيف أن بعض النظريات الاقتصادية الوضعية قد تتفق في أمور مع النظرية الاقتصادية الإسلامية، والتي تختلف في أمور كثيرة عنها، ولكن في نهاية الأمور يكون التميز والكمال من نصيب التشريع الذي وضعه خالق الكون لعباده في الأرض
الاثنين / 17 / ربيع الثاني / 1435 هـ - 01:00 - الاثنين 17 فبراير 2014 01:00
أوضحت في المقال قبل السابق كيف أن بعض النظريات الاقتصادية الوضعية قد تتفق في أمور مع النظرية الاقتصادية الإسلامية، والتي تختلف في أمور كثيرة عنها، ولكن في نهاية الأمور يكون التميز والكمال من نصيب التشريع الذي وضعه خالق الكون لعباده في الأرض. وتحدثت عن نظرة الاقتصاد الوضعي لمسألة هي جوهر الاقتصاد، تكمن في كيفية المواءمة بين ندرة أو شح الموارد وبين تعدد الرغبات والاحتياجات عند البشر.. والتي لم يجد لها علماء الاقتصاد الحالي طريقة علاج مثلى. ولكن الله تعالى يقول مخبرا ومبشرا: “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون” (الأعراف، الآية 96) إذا هذا هو الحل الإلهي، مع الإيمان والتقوى تحل البركات وتزول هذه المشكلة المادية بعامل روحي. فعندما يحصل الإيمان والتقوى تحل البركة، وإذا بغى الإنسان وطغى نزعت البركة، وهذا هو تفسير الدورات الاقتصادية بين كساد ورواج، فإذا حل الإيمان والتقوى بأمة سادت وإن حل البغي بها بادت. وهذا معيار لم تضعه أي نظرية اقتصادية وضعية في حسابها.. بل حاولوا معالجة المشكلة الاقتصادية برمتها من خلال التوزيع على عناصر الإنتاج المتوافرة كما وكيفا، ولم تضع أي من هذه النظريات في أولوياتها كيف تزيد الإنتاج أولا. بينما النظرية الاقتصادية الإسلامية أخذت الموضوع من بداية الأمر، فمع الاعتراف بالندرة لابد من النظر في أسباب وسبل زيادة الموارد قبل النظر في توزيعها، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى المال منسوبا إليه، فهو المالك الحقيقي، وملكية الإنسان إنما هي ملكية استخلاف. وعلى ذلك.. يجب أن يكون كسب المال وصرفه طبقا لقواعد معينة وضعها الله المالك الحقيقي، وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا لا خفاء بعده يوجب على الإنسان أن يتقيد به ولا يتعداه لقد ربط الله إنزال الخير والبركة بالإيمان والتقوى، فالإيمان بالله وتقواه يمنعان من الظلم والغش والتزوير والنصب والاحتيال والاحتكار والتطفيف، ويدعوان إلى التعاون ويحضان على البر والتقوى. وبعد أن مر علينا زمان أنكر فيه المنكرون وجود أية قيم أخلاقية عليا تحكم النشاط الاقتصادي، ها هي القيم الأخلاقية التي تحكم النشاط الاقتصادي تسري في مناهج الاقتصاد في مختلف أنحاء العالم، لأنها قيم إنسانية أرادها الله للبشرية، وبشر بها أنبياؤه ورسله منذ الأزل. فقال لهم تعالى من خلال نبيه شعيب: “أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاس المستقيم. ولا تبخسوا الناس أشياءهم” (الشعراء، الآيات، 183،182،181). وبنفس المعيار الإيماني العادل طلب يوسف عليه السلام من عزيز مصر أن يوليه خزائن الأرض لأنه حفيظ عليم. ولقد ذم السيد المسيح عليه السلام الفائدة بقوله: “أقرض بلا مقابل ولا تأمل شيئا” وهي ذات الفائدة التي ندد بها أرسطو حين وصفها بأنها “نقود تولد من نقود”. إن قواعد ومنطلقات الاقتصاد الإسلامي بشكل أو بآخر هي نفسها توجهات الأديان السماوية بما فيها اليهودية والمسيحية. والذي حدث أن البعض نسوا وضلوا فأصبحت المناهج المادية السائدة، ولو لم يحدث هذا لما احتجنا اليوم لأن نسمي بضاعتنا بالاقتصاد الإسلامي أو البنوك الإسلامية، ولاستعضنا عن ذلك بأن نسميه (اقتصادنا) المنهج السماوي الإنساني. فإذا ما ترسخت في الأذهان هذه الحقيقة ستكون الصحوة، وهو ما حدث بالفعل حيث بدأت جامعات ألمانيا “والتي التقيت برئيسة وزرائها المستشارة ميركل حول هذا الأمر في جدة وقد أجد مناسبة للحديث معكم حول هذا الموضوع بإذن الله”. وجامعات بريطانيا وأمريكا تدرّس مادة الاقتصاد والمصارف الإسلامية وتجعل لها كراسي خاصة في الدراسات العليا، وأنشأ صندوق النقد الدولي قسما خاصا لأبحاث الاقتصاد الإسلامي. هذه الصحوة التي اضطرت محافظ بنك إنجلترا لأن يقول يوما: “إنه يحترم المفهوم الإسلامي القائل: بأن الربح يجب أن ينجم من تشغيل المال وامتلاك الأصول الحقيقية وإن هذا المفهوم حتى في مجتمع علماني يساعد في تمويل التجارة والصناعة”. لقد دعا وضوح حقيقة الركائز الإيمانية في الاقتصاد الإسلامي أكبر البنوك الغربية وأعرقها بأن تتجه نحو إقامة وإنشاء بنوك تعمل وفق أحكام وقواعد الاقتصاد الإسلامي بالكامل. وقد أحكي لكم إن شاء الله في مرات قادمة عن قصتي مع البنك الأمريكي في جدة وكيف وافق على العمل معي من خلال قاعدة المضاربة الإسلامية قبل ما يقارب الثلاثين عاما إن هذا الإقبال المتزايد من الغرب على فهم الاقتصاد الإسلامي كان من الواجب أن تواكبه جهود أخرى تعمق معناه. وفي العدد القادم إن شاء الله أواصل معكم الحديث عن بعض هذه الجهود بعدما بدأت بنفسي ولله الحمد. أسأل الله أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير.