الإسراف.. مباهاة زائفة ومغالاة عقيمة
السوق
الاحد / 14 / ربيع الثاني / 1437 هـ - 19:15 - الاحد 24 يناير 2016 19:15
توحدت الخطب، وأجمع الخطباء، في يوم الجمعة الماضية، على محاربة ظاهرة تفشت في المجتمع بشكل واضح، حتى أمست للأسف الشديد من بعض عاداته، وما كل عادة حميدة، ولا كل اتباع بمحمود، إنها ظاهرة السرف وعادة الإسراف، التي توغلت وعمت وانتشرت بين الناس في مجتمعنا، بل وفي كثير من المجتمعات العربية.
فانبرى لها الخطباء في حملة توعية رائعة، وفي محاولة تنبيه مخلص، درءا لاستفحالها، ومنعا لاستشرائها، من أجل حفظ النعمة وشكرها، فجزى الله كل داعية وداع لهذا الأمر الجلل، الذي كان لا بد من توحيد الجهود وتوجيهها لمكافحته والقضاء عليه. يقول الله تبارك وتعالى في السرف والإسراف عبر آيات كثيرة ومواقع متعددة:
• (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأنعام آية 141
• (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف آية 31
• (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) يونس آية 83
• (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) الفرقان آية 67
والإسراف كلمة جامعة تشمل كل إفراط في الكم، أو الكيف، وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان، والإسراف من الأمور المحرمة في الإسلام، ويدل عليه الإجماع القطعي، بل الضرورة الدينية.
ولقد ذكر القرآن الكريم الإسراف في عشرين موضعا، وكان يذمه في تلك المواضع جميعها، فالإسراف يعد نهجا فرعونيا، وفي بعض هذه الآيات يُعتبر الإسراف والمسرفون في زمرة الهالكين: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) غافر آية 28.
فالإسلام اختار الوسطية والاعتدال في الإفادة من نعم الله، فهو الدين الذي ليس فيه جمود يقمع الرغبات المودعة في الإنسان، لكنه يضع دستورا عاما، ومنهجا إلهيا يوجه الناس إلى كيفية التعامل مع حاجاتهم الجسدية من مأكل وملبس، لكنه في الوقت ذاته لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية في سد تلك الحاجات، بل يريده أن يكون متوازنا في كل شيء، وأن يجعل هذا التوازن عملا يقرب العبد إلى ربه.
وقد يقول قائل: إن الإنسان حر في ممتلكاته، وله أن يتصرف فيها كيفما يشاء، والحقيقة أن الإنسان وكل شيء في الكون ملك لله تعالى، ولا يجوز منطقيا للإنسان أن يتصرف في ملك الله بما يُغضب الله.
ويقول رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه»، وصدق من لا ينطق عن الهوى، إنها المعدة بيت الداء، وهي الحمية أصل الدواء.. وليت الأمر اقتصر على ملء البطون، ولكنه من خلال هذه الظاهرة للأسف تجاوزه إلى ملء صناديق الزبالة بأطنان من بقايا الطعام.
تدعو رجلا لغداء أو عشاء، فتذبح له ما يكفي عشرات الرجال.
وتقيم وليمة لقوم في مناسبة، فتفرش من السفر ما يكفي أقواما، في وقت يشهد فيه عالمنا العربي والإسلامي يوميا المئات يموتون جوعا، بل ويأكلون النافق من الحيوان وأوراق الشجر، من أجل البقاء على قيد الحياة، بينما في ذات الوقت نرى العجب العجاب في الاحتفالات وأعراس الزفاف، حين تبارى من عنده ومن ليس عنده في السرف وفي الإسراف. يقول لها: يا ابنة العم ليس لدي من المال ما يكفي لعمل كل ما تطلبين، فتقول له: استلف، استدن، اطلب قرضا من البنك! تصرف كما فعل فلان وفعلت فلانة! ويفعل المسكين ويتحمل وزر الاقتراض وذنوب الإسراف.
لقد أمست المناسبات التي يُفترض أن تكون بداية للسعادة والفرح، سعيرا وجحيما تلتهم كل المدخرات إذا وجدت، وتحمل الناس ما لا طاقة لهم به، في سباق محموم ومذموم من أجل مباهاة زائفة ومغالاة عقيمة، وتذهب كما يقول المثل الشعبي «العروسة للعريس والجري للمتاعيس». ومهما فعل المسرفون الباحثون عن المظاهر الكذابة، ورضا الناس فلن يفلحوا إذا أبدا.
والناس تروي في حكاياتها الشعبية، أن ثريا أقام لولده حفل زفاف فاخرا، وقد جرت العادة على توزيع علب الحلوى على الحاضرين حين الانصراف أو بعد عقد القران، باختلاف ما تحويه هذه العلب من أنواع الحلويات. فأراد ذلك الثري المبالغة في هذا الأمر، فوضع بدل الحلوى في العلب، جنيه ذهب. ولما أخذها المعازيم وفتحوها وهم يهمون بالمغادرة، وجدوا بداخلها - في كل علبة - جنيه ذهب، وكان يساوي كثيرا في زمن الحكاية، وإذا بهم يقولون في شبه إجماع، إلا القانعون، «جنيه ذهب واحد! يعني ما كان يقدر والله معطيه وموسع عليه يخليها جنيهين أو ثلاثة!».
حتى الذهب لم يجلب لصاحب الدعوة رضا الناس ولم ينجه من ألسنتهم.
وكم أعجب من البشر الذين يهتمون بتجميل وجوههم أمام الخلق، ويهملون تجميل قلوبهم أمام الخالق، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وأعتقد، بل أكاد أجزم، أن العلاقة وثيقة ومترابطة بين هاتين الظاهرتين، السرف وكلام الناس، فلو خفف الناس من انتقاداتهم لخفف المسرفون من نفقاتهم، والعكس صحيح: فلو لم يعبأ المسرفون بكلام الناس ولم يجعلوا له أثرا عليهم، لخفف المنتقدون من ملاحظاتهم ولقلت نسبة القيل والقال.
وعلى المرء أن يُحسِن الظن بالله ويتقيه، ليحفظه من آثام السرف ويحميه، ولعله أرحم أن يقال: إنسان معسر، من أن يقال: شيطان مبذر.
فانبرى لها الخطباء في حملة توعية رائعة، وفي محاولة تنبيه مخلص، درءا لاستفحالها، ومنعا لاستشرائها، من أجل حفظ النعمة وشكرها، فجزى الله كل داعية وداع لهذا الأمر الجلل، الذي كان لا بد من توحيد الجهود وتوجيهها لمكافحته والقضاء عليه. يقول الله تبارك وتعالى في السرف والإسراف عبر آيات كثيرة ومواقع متعددة:
• (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأنعام آية 141
• (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف آية 31
• (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) يونس آية 83
• (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) الفرقان آية 67
والإسراف كلمة جامعة تشمل كل إفراط في الكم، أو الكيف، وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان، والإسراف من الأمور المحرمة في الإسلام، ويدل عليه الإجماع القطعي، بل الضرورة الدينية.
ولقد ذكر القرآن الكريم الإسراف في عشرين موضعا، وكان يذمه في تلك المواضع جميعها، فالإسراف يعد نهجا فرعونيا، وفي بعض هذه الآيات يُعتبر الإسراف والمسرفون في زمرة الهالكين: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) غافر آية 28.
فالإسلام اختار الوسطية والاعتدال في الإفادة من نعم الله، فهو الدين الذي ليس فيه جمود يقمع الرغبات المودعة في الإنسان، لكنه يضع دستورا عاما، ومنهجا إلهيا يوجه الناس إلى كيفية التعامل مع حاجاتهم الجسدية من مأكل وملبس، لكنه في الوقت ذاته لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية في سد تلك الحاجات، بل يريده أن يكون متوازنا في كل شيء، وأن يجعل هذا التوازن عملا يقرب العبد إلى ربه.
وقد يقول قائل: إن الإنسان حر في ممتلكاته، وله أن يتصرف فيها كيفما يشاء، والحقيقة أن الإنسان وكل شيء في الكون ملك لله تعالى، ولا يجوز منطقيا للإنسان أن يتصرف في ملك الله بما يُغضب الله.
ويقول رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه»، وصدق من لا ينطق عن الهوى، إنها المعدة بيت الداء، وهي الحمية أصل الدواء.. وليت الأمر اقتصر على ملء البطون، ولكنه من خلال هذه الظاهرة للأسف تجاوزه إلى ملء صناديق الزبالة بأطنان من بقايا الطعام.
تدعو رجلا لغداء أو عشاء، فتذبح له ما يكفي عشرات الرجال.
وتقيم وليمة لقوم في مناسبة، فتفرش من السفر ما يكفي أقواما، في وقت يشهد فيه عالمنا العربي والإسلامي يوميا المئات يموتون جوعا، بل ويأكلون النافق من الحيوان وأوراق الشجر، من أجل البقاء على قيد الحياة، بينما في ذات الوقت نرى العجب العجاب في الاحتفالات وأعراس الزفاف، حين تبارى من عنده ومن ليس عنده في السرف وفي الإسراف. يقول لها: يا ابنة العم ليس لدي من المال ما يكفي لعمل كل ما تطلبين، فتقول له: استلف، استدن، اطلب قرضا من البنك! تصرف كما فعل فلان وفعلت فلانة! ويفعل المسكين ويتحمل وزر الاقتراض وذنوب الإسراف.
لقد أمست المناسبات التي يُفترض أن تكون بداية للسعادة والفرح، سعيرا وجحيما تلتهم كل المدخرات إذا وجدت، وتحمل الناس ما لا طاقة لهم به، في سباق محموم ومذموم من أجل مباهاة زائفة ومغالاة عقيمة، وتذهب كما يقول المثل الشعبي «العروسة للعريس والجري للمتاعيس». ومهما فعل المسرفون الباحثون عن المظاهر الكذابة، ورضا الناس فلن يفلحوا إذا أبدا.
والناس تروي في حكاياتها الشعبية، أن ثريا أقام لولده حفل زفاف فاخرا، وقد جرت العادة على توزيع علب الحلوى على الحاضرين حين الانصراف أو بعد عقد القران، باختلاف ما تحويه هذه العلب من أنواع الحلويات. فأراد ذلك الثري المبالغة في هذا الأمر، فوضع بدل الحلوى في العلب، جنيه ذهب. ولما أخذها المعازيم وفتحوها وهم يهمون بالمغادرة، وجدوا بداخلها - في كل علبة - جنيه ذهب، وكان يساوي كثيرا في زمن الحكاية، وإذا بهم يقولون في شبه إجماع، إلا القانعون، «جنيه ذهب واحد! يعني ما كان يقدر والله معطيه وموسع عليه يخليها جنيهين أو ثلاثة!».
حتى الذهب لم يجلب لصاحب الدعوة رضا الناس ولم ينجه من ألسنتهم.
وكم أعجب من البشر الذين يهتمون بتجميل وجوههم أمام الخلق، ويهملون تجميل قلوبهم أمام الخالق، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وأعتقد، بل أكاد أجزم، أن العلاقة وثيقة ومترابطة بين هاتين الظاهرتين، السرف وكلام الناس، فلو خفف الناس من انتقاداتهم لخفف المسرفون من نفقاتهم، والعكس صحيح: فلو لم يعبأ المسرفون بكلام الناس ولم يجعلوا له أثرا عليهم، لخفف المنتقدون من ملاحظاتهم ولقلت نسبة القيل والقال.
وعلى المرء أن يُحسِن الظن بالله ويتقيه، ليحفظه من آثام السرف ويحميه، ولعله أرحم أن يقال: إنسان معسر، من أن يقال: شيطان مبذر.