الأدب قيمة جمالية خالصة
الأربعاء / 10 / ربيع الثاني / 1437 هـ - 18:00 - الأربعاء 20 يناير 2016 18:00
بأي معنى يمكن أن نتصور قيمة الأدب، من حيث اندراجه في فعل التحديث للوعي والتحقيق للقيمة الإنسانية، والكشف عن دور لا يغني عنه غيره؟ إنه سؤال، يتضمن فيما يتضمن، النفي للموقع الثانوي والهامشي الذي يحل فيه الأدب والفنون في منزلة تالية ورتبة أدنى، والنفي لأي ممارسة تحقق ما يحققه الأدب بغير المعنى الجمالي الخالص.
فلا معنى للأدب يصنع التصور له بالحسبان الذي يتضمنه السؤال، حين نرتبه على مضامين سابقة عليه، ونحمله على مفاهيم محددة، ونمتطيه وسيلة إلى غيره من المنافع اليومية، وهنا الفارق بين الفن وبين غيره: بين ممارسة إبداعية جمالية خالصة وبين حديث تجريدي مباشر في الفلسفة أو في الأخلاق ونحو ذلك.
لقد كانت الفلسفة الجمالية التي تنفي المفهوم عن الجمال مثلما تنفي المنفعة عنه، نافذة للانفتاح على غير المفهومي وغير العقلاني، وتثمينا لملكة الخيال، كما لدى الرومانسيين ومن بعدهم المذاهب الطليعية والنزعات الحداثية المختلفة، وكانت نافذة للإطلال على الأدب والفنون من زاوية الاهتمام فيها باللغة وما تمثله من استقلال عن المفهوم أو الغرض، وهذا الاهتمام تحديدا هو ما قوي في المقولات اللسانية والسيكولوجية والفلسفية والفنية، من الوجهة التي تمثل انقلابا على تصور هيجل للغة والأدب؛ أعني السعي –في الوجهة الهيجلية- إلى جعل الواقع شفافا، وإخضاع الأدب للُّوجوس والأصل، فالأدب –في هذه الوجهة- مثل اللغة ثانوي، وهو نمط أدنى من المعرفة، وحين يثور الأدب على هذا النسق من التصور فإنه، يثور على القيم النفعية، وعلى كل نسق عقلاني يقمع تلقائية الذات وحريتها الفردية في التحقق الإبداعي.
وبهذا المعنى بدا الأدب الطليعي، أدب الحداثة، مشابهاً - في توصيف رامان سلدن- للأحلام في تجنبه القول بوجود مركز تحتله عملية القص، وفي تلاعبه الحر بالمعنى. وهذا تشبيه له أهميته لدى جاك دريدا، بالقدر الذي كانت لغة الأحلام لديه، كما تصوَّرها فرويد، كتابة أصلية أو أولية؛ لأنها لا تحيل على غيرها كما هو حال الكتابة الصوتية. ولقد كانت وجهة الأدب الطليعي هذه بما اشتملت عليه من خلوص جمالي أحد مرجعيات التفكيكية وصلة واصلة بها، حتى غدت التفكيكية علامة على النفي لما هو خارج النص.
لقد وجدت التفكيكية لدى النزعات الحداثية في الأدب منذ الرومانسيين، ما ساعدها على تمييز ألوان الخطاب التسلطية وانغلاق النظام الرمزي في المجتمعات، وأشهدها على امتلاء الخطابات بالأيديولوجيا وأن وراء الذات التي نتوهم وحدتها تعددا واختلافا. فاللغة الشعرية تمارس النقض والتفكيك بانزلاق دوالها مجازيا ومجاوزتها للانتظام العقلي ومبدأ الواقع والضرورة.
وفي ضوء هذا التصور الحديث تكشّفت لدريدا في الأدب الطليعي خاصية النقض للتمركز المنطقي والصوتي، فالنص لا يحيل على مؤلفه، ذلك الذي كان يأخذ صورة العبقري الملهم أو الحكيم، ولا يحيل على الواقع الذي كان النص يتنزل منزلة الصورة له، وهذان التصوران القديمان المتمركزان صوتيا ومنطقيا، لا يتركان للقارئ إلا دور المستهلك، ويفرضان وحدة موضوعية وذاتية مصنوعة. إن نص مالاراميه، كما وصفه دريدا، مغامرة مع الحرف، بعيداً عن أي وحدة، أو تمركز، فهو يخلق عالما يشبه اللعب، ولا يحسم المعنى أو يقطع بالحقيقة. وهذا –من وجهة دريدا- ليس شكل الكتابة أو مفهومها لدى مالاراميه، بل هو شكل الكتابة ومفهومها لدى نزعة الحداثة والكتاب الطليعيين كافة.
وهكذا أصبح للفن قيمة تحريرية للإنسان ومن ثم قيمة أخلاقية لن يتسع المجال للإفاضة فيها.
zayad.s@makkahnp.com
فلا معنى للأدب يصنع التصور له بالحسبان الذي يتضمنه السؤال، حين نرتبه على مضامين سابقة عليه، ونحمله على مفاهيم محددة، ونمتطيه وسيلة إلى غيره من المنافع اليومية، وهنا الفارق بين الفن وبين غيره: بين ممارسة إبداعية جمالية خالصة وبين حديث تجريدي مباشر في الفلسفة أو في الأخلاق ونحو ذلك.
لقد كانت الفلسفة الجمالية التي تنفي المفهوم عن الجمال مثلما تنفي المنفعة عنه، نافذة للانفتاح على غير المفهومي وغير العقلاني، وتثمينا لملكة الخيال، كما لدى الرومانسيين ومن بعدهم المذاهب الطليعية والنزعات الحداثية المختلفة، وكانت نافذة للإطلال على الأدب والفنون من زاوية الاهتمام فيها باللغة وما تمثله من استقلال عن المفهوم أو الغرض، وهذا الاهتمام تحديدا هو ما قوي في المقولات اللسانية والسيكولوجية والفلسفية والفنية، من الوجهة التي تمثل انقلابا على تصور هيجل للغة والأدب؛ أعني السعي –في الوجهة الهيجلية- إلى جعل الواقع شفافا، وإخضاع الأدب للُّوجوس والأصل، فالأدب –في هذه الوجهة- مثل اللغة ثانوي، وهو نمط أدنى من المعرفة، وحين يثور الأدب على هذا النسق من التصور فإنه، يثور على القيم النفعية، وعلى كل نسق عقلاني يقمع تلقائية الذات وحريتها الفردية في التحقق الإبداعي.
وبهذا المعنى بدا الأدب الطليعي، أدب الحداثة، مشابهاً - في توصيف رامان سلدن- للأحلام في تجنبه القول بوجود مركز تحتله عملية القص، وفي تلاعبه الحر بالمعنى. وهذا تشبيه له أهميته لدى جاك دريدا، بالقدر الذي كانت لغة الأحلام لديه، كما تصوَّرها فرويد، كتابة أصلية أو أولية؛ لأنها لا تحيل على غيرها كما هو حال الكتابة الصوتية. ولقد كانت وجهة الأدب الطليعي هذه بما اشتملت عليه من خلوص جمالي أحد مرجعيات التفكيكية وصلة واصلة بها، حتى غدت التفكيكية علامة على النفي لما هو خارج النص.
لقد وجدت التفكيكية لدى النزعات الحداثية في الأدب منذ الرومانسيين، ما ساعدها على تمييز ألوان الخطاب التسلطية وانغلاق النظام الرمزي في المجتمعات، وأشهدها على امتلاء الخطابات بالأيديولوجيا وأن وراء الذات التي نتوهم وحدتها تعددا واختلافا. فاللغة الشعرية تمارس النقض والتفكيك بانزلاق دوالها مجازيا ومجاوزتها للانتظام العقلي ومبدأ الواقع والضرورة.
وفي ضوء هذا التصور الحديث تكشّفت لدريدا في الأدب الطليعي خاصية النقض للتمركز المنطقي والصوتي، فالنص لا يحيل على مؤلفه، ذلك الذي كان يأخذ صورة العبقري الملهم أو الحكيم، ولا يحيل على الواقع الذي كان النص يتنزل منزلة الصورة له، وهذان التصوران القديمان المتمركزان صوتيا ومنطقيا، لا يتركان للقارئ إلا دور المستهلك، ويفرضان وحدة موضوعية وذاتية مصنوعة. إن نص مالاراميه، كما وصفه دريدا، مغامرة مع الحرف، بعيداً عن أي وحدة، أو تمركز، فهو يخلق عالما يشبه اللعب، ولا يحسم المعنى أو يقطع بالحقيقة. وهذا –من وجهة دريدا- ليس شكل الكتابة أو مفهومها لدى مالاراميه، بل هو شكل الكتابة ومفهومها لدى نزعة الحداثة والكتاب الطليعيين كافة.
وهكذا أصبح للفن قيمة تحريرية للإنسان ومن ثم قيمة أخلاقية لن يتسع المجال للإفاضة فيها.
zayad.s@makkahnp.com