الرأي

أرامكو السعودية في المزاد

يشغل أعمدة الصحف وأقلام الكتاب هذه الأيام الحديث عن تخصيص شركة أرامكو العملاقة الذي أعلنت النية عن بدئه، ويأخذ الكتاب والمحللون الاقتصاديون وحتى غير الاقتصاديين ويعطون في أمر تخصيصها بين مؤيد للتخصيص ومبرر له، وبين من له وجهة نظر لا يعلنها بوضوح، ولكنك تقرأ اعتراضه بين سطور القول الذي يدلي به، وثالث يبدي شيئا من الاستغراب، ويرى أن أرامكو في نظره أكبر من أن تكون شركة يمكن أن يطبق عليها نظام الشركات التي يصلح تخصيصها وطرحها للاكتتاب العام.

وأرامكو في حقيقة وضعها ليست شركة قطاع عام تخصص عند الحاجة، ولكنها خزينة الدولة العامة، والمصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الوطن كله، الدولة والشعب في كل شيء ويمول مشاريعها، وكل هؤلاء الذين أشرت إلى أقوالهم جميعهم من أهل الاختصاص أو الاهتمام بالاقتصاد، والكتابة عنه والحديث فيه، ولكل منهم حجته ورأيه الذي يراه ويبينه ويدافع عنه، ولأن أرامكو بهذه الصفة التي ذكرت وبوضعها الذي لا يشابهه وضع أي شركة أخرى فإن الحديث عنها لن يكون مقتصرا على أهل الاختصاص والاقتصاد، ولكن من حق الجميع أن يخوض فيه كل على قدر اهتمامه بالموضوع ولهذا أرى أنه من حقي أن أبدي رأيي وأشارك الآخرين آراءهم حتى وإن كان رأيا مختلفا، ووجهة نظر مغايرة لما نشر في الصحف المحلية والعالمية عن تخصيص أرامكو.

ولن أكتب هذا المقال من وجهة نظر اقتصادية متخصصة، لسبب بسيط ومعروف أعلنه للقراء وهو أنني لست متخصصا في الاقتصاد، لا عملا ولا قولا، لكنني سأكتب من وجهة نظر عامة يشاركني فيها الكثير بقدر ما تكون أرامكو مهمة لنا جميعا، لأنها مختلفة كل الاختلاف عن الشركات التي يمكن أن يقبل التخلي عنها للقطاع الخاص؛ ليديرها ويستولي على ملكيتها أو على بعض قطاعاتها ولو على جزء منها.

وسبب اعتراضي ليس فنيا فحسب، ولكنه من فحوى الخبرة الماضية بطريقة ممارستنا لما نفكر في عمله، حيث نبدأ الفكرة ونقرر بسرعة صلاحها والعمل بها ثم نندفع بتنفيذها ونبالغ بوصف ما نفعل بأنه الصواب الذي يعدنا بالمن والسلوى، وتخضر الفكرة بعيوننا نظريا، وتنطلق أقلامنا بالثناء عليها والحشد لها، والحديث عما سوف يجنيه الوطن ويناله المواطنون من هذا المشروع المبارك، أو تلك الفكرة الخلاقة التي نقدم عليها، ونتمسك بها قبل أن ننضجها دراسة ودراية ومعرفة في مآلها وما يترتب عليها.

ولكي لا أقول كلاما مجردا فلا بد أن أعود بكم إلى فكرة المدن الاقتصادية التي طرأ الحديث عنها بين ليلة وضحاها، وأسرعنا فيها ووعدنا القائمون عليها أن الواحدة من هذه المدن ستستوعب قطاعا كبيرا من المواطنين، وأن حجم الوظائف التي يتمخض عنه المشروع الواحد سيكون كبيرا، حدده بعضهم بخمسمئة ألف وظيفة خلال خمس سنوات، فملأ الكتاب والمحللون والمهللون أعمدة الصحف عما سيعود علينا من هذه المشاريع، بل وزاد أحدهم الكيل فزعم أن إحدى هذه المدن الاقتصادية ستوفر مليون وظيفة خلال عشرين عاما، وقد مضى أكثر من نصف المدة ولم نر ما وعدت به تلك المدينة الاقتصادية ولا غيرها.

ومثل المدن الاقتصادية ما وعدنا به أول رئيس لهيئة الاستثمار العامة من أن العالم طوع يديه، وأنه قادر على جلب المليارات من الاستثمارات وقد صدقنا ما يقول، وأيدنا ما يفعل وكتبنا وأكثرنا من المدائح بانتظار المليارات القادمة من العالم، علما أننا كنا متخمين بالفائض الكبير من عوائد البترول عندما كان سعر البرميل يقارب مئة وخمسين دولارا، وكل ما أكثر المسؤول عن هيئة الاستثمار من الوعود صدقنا ما يقول وهللنا لما يعمل حتى ذهب، وذهبت وعوده معه، ولم نر شيئا وما يزال من جاء بعده يرقعون ما خلفه، ومثل ذلك توسعنا في بعض المشاريع الهائلة التي لا نحتاج إلا بعضها، وأنفقنا مئات المليارات عليها وها نحن اليوم نبحث كيفية الخلاص من تبعاتها، وما يترتب من التزامات مستقبلية كبيرة علينا بسببها.

من هذه التجارب يظهر أن التريث في تخصيص أرامكو ومراجعة الفكرة المطروحة حولها أولى من التسرع، وعلى أهل الاختصاص وأهل الرأي أن يقلبوا الأمر على وجوهه ويناقشوه من جميع جوانبه، ولا شك أننا ولله الحمد لم نصل بعد إلى الخيار بين لحم البقرة وحليبها فدعوا أرامكو وفكروا بغيرها.

marzooq.t@makkahnp.com