الرأي

كيف تأتي (البوكر) بين نهار (عبوس) وليل (يؤوس)؟

(1) ربما يكون للرواية متى ما اكتملت لها الشروط الموضوعية والفنية المنشودة دلالات ثقافية (مهمة) في تاريخ الأمم والجماعات. فالفن الروائي بما يتوافر داخله من تعدديات حوارية على مستويات السرد كافة (الشخصيات - صيغ السرد - اللغات - النصوص - الرؤى...) جدير بأن يكون مؤشرا للمستوى الثقافي الكلي!

ولذلك، يمكن القول بأن علاقتنا بالرواية تشير إلى ثقافة مضطربة متوترة، لا تسير في اتجاه تصاعدي كما هو حال الثقافات الراسخة.. الجادة.. الحقيقية، لأن الرواية لدينا كانت متأرجحة خلال العقدين الماضيين (فقط) ما بين التألق والتقهقر، والنضج والفضح، حتى إنها حصدت جوائز الرواية العربية حينا، وفي أحيان أخرى أخيرة خرجت حتى من القوائم الأولية للمسابقة!!

الفترة الآنية تسجل بجد حضورا هشا فاضحا للروايات المحلية، حتى من الروائيين الذين كانوا على مقربة من حمى الرواية الخالصة، ومن اختيارات ذاكرة التلقي الراسخة في علم الرواية!!

(2) لا يكفي أن يتألق كاتب ما في رواية (وحيدة) أو روايتين (بالكثير) خلال ثلاثين عاما، لأن يفرض إنتاجه على تاريخ (الرواية الحقيقية)، ويكون مؤشرا صادقا على ثقافة حقيقية! لا يكفي أن تأتي خمسة أعوام متتالية حبلى بروايات محلية مقنعة، لأن تكون تلك الأعمال المنتجة راسخة في تاريخ مديد لأدب تمثل فيه الرواية الآن الفن الأكثر رواجا وتأثيرا وحضورا وثقافة!

(3) لعل الأسباب لذلك المشهد الروائي المضطرب لدينا كثيرة، منها ما يتعلق بالروائي نفسه، ومنها ما يتعلق بالفضاء الاجتماعي العام الذي تنتج الرواية من نسيجه المعقد.

فمن ناحية، فإن فقر (الحياة) التي يعيشها الكاتب، مجردة من ديالكتيك ثر من العلاقات والفنون والثقافات والفضاءات، يفضي إلى حالة (فقيرة) لا تستفز أصداء الرواية ونداءاتها الخفية الساحرة.

فالرواية هي (صورة الحياة) لدى آباء الرواية ومنظريها منذ إدوين موير وحتى باختين وآخر قارئ حصيف للرواية، وإن كانت الرؤية لتلك الحياة تتنوع وتتعقد وتتعدد وتختلف بحسب التطور النوعي للفن الروائي العالمي.. ومن ناحية أخرى، فيشكل غياب (الفلسفة) في مشهدنا التعليمي والفكري عامة عائقا كبيرا عن التعاطي مع القضايا الوجودية المصيرية التي تزدهر الرواية في أرجائها الرحبة (كونديرا.. ياكونديرا..)! ولا شك أن الغياب المرير لـ(الفلسفة) هو قاصمة الظهر للمكون الثقافي الكلي، بعد أن تحيدت وتجمدت معه الأسئلة العقلانية، التي هي السبيل الوحيد للعلاقة الصحيحة مع الدين والتراث والهوية والعلم والأدب!

(4) أما فيما يتعلق بالروائي المحلي ذاته، فإن الرغبة الجارفة من كتاب الرواية في البوح العاطفي الانفعالي عن المكبوتات الداخلية وتجاوز إحباطات (الذات)، تجعل الرواية رهينة للحظة ذاتية تسجيلية.. بعيدة عن الزمن الروائي الأكثر جماعية وتعقيدا!

كما أن الرواية ليست (حكاية) يستعرض فيها الكاتب رحلاته ومنجزاته واكتشافاته.. ومن جانب آخر، فإن فن الرواية يحتاج إلى اشتغال جاد مؤرق.. إلى (أرشيف) هائل من المعلومات والوثائق والنصوص واللغات والأماكن، يحتاج إعداده لزمن أكثر (بكثير) من زمن الكتابة..

تحتاج الرواية إلى زمن من القلق والتعب والبحث لتتخمر عناصرها في وجدان الكاتب ووعيه.. تحتاج الرواية إلى نسق حواري يربطها بمثيلاتها في فضاءات وحالات أخرى.. تحتاج الرواية إلى تفكير مضن شاق في الصياغة النهائية لفصولها، والتي تتكون من صياغات جزئية تتحاور وتتصارع على الدوام! تحتاج الرواية إلى كرنفال متعدد الأصداء والأمداء والألوان والروائح والأصوات لتحاكيه.. تحتاج الرواية إلى (الكثير) و(الكثير).. ولذلك لم ينشأ منها إلا (أقل) القليل!

(5) ولكن الذي حدث مع روائيينا الجدد، أو الرواد المتجددين، أن صناعة الرواية لديهم أصبحت كعمل القهوة الباردة السامجة لدى محلات (بارنيز) السريعة، أو ما يشابهها من أكشاك الطريق!! إذ المهم أحيانا لدى المعد والمتذوق معا رائحة القهوة.. فحسب! كما أن صناعة الرواية أصبحت استجابة لعقود موثقة (مستعجلة) من دور النشر، التي لا تهتم بالنص الروائي بقدر ما تهتم بنجومية بعض الأسماء!

(6) تنمو النباتات عندما تتوفر الظروف الملائمة للخصوبة!

algohani.f@makkahnp.com