الرأي

صورة إنسانية

مرَّ بي، وربما مرَّ بآخرين، كلام يزجيه مؤرخو الأدب العربي القديم، وبخاصة الأدب الجاهلي، يصف الشعر العربي بألوان من المثالب، فشعر العرب يفتقر إلى الخيال المتوثب، والقصيدة مفككة الأوصال، تتَّسم بالذَّرِّيَّة، والصورة الشعرية ممعنة في الحس والمادة، وكنا نقرأ هذا الكلام، فيبعث في أنفسنا ضروبا من التناقض، إذا أسلمناها إلى طبيعتها أقبلنا على ذلك الشعر وملنا إليه، وألفينا فيه جمالا فطريًّا ساذجًا، هو الشعر وهو الفن، وإذا أصغينا إلى ذلك الكلام الذي قيل لنا إنه العلم، اتَّبعنا تلك الأقوال، وانطبعت في عقولنا، وأنَّى لنا أن نعرض عنها، وأصحابها إما أن يكونوا من كبار المستشرقين، أو أعلام النهضة العربية. ولا زلت أذكر أن قدرًا كبيرًا من هذه الأحكام العامة امتلأ به كتب هؤلاء وأولئك، وإنك لو استسلمت لها، ستخرج منها، وليس في ذهنك إلا الإزراء بالثقافة العربية وتراثها!

الموضوع حافل والكلام فيه لا ينتهي به الحد، وسأخص ما بقي من سطور للكلام عن الشعر العربي القديم، ذلك الشعر الذي رُمِيَ بالعقم، والحسِّيَّة، والافتقار إلى الخيال، إلى آخر تلك العبارات التي أنشأنا، بعد حين، نصدر عنها، بعد أن صبها الكتاب المدرسي في أدمغتنا، لأن الكتاب المدرسي يبحث عن «خصائص» ذلك الشعر، وليس له من خصائص إلا تلك العبارات المنفرة.

ولكننا نقرأ قصائد وأبياتًا لشعراء معروفين، وآخرين لا نكاد نعرفهم إلا بالبيت والبيتين والثلاثة، فنجد في شعرهم لذة، ونقع فيه على معانٍ إنسانية رائعة، وصاحب تلك الأبيات إن تقصينا خبره أعرابي لا يعرف من عالمه إلا الصحراء، وما يكتنفها من هول وجوع وموت، ولكنه يعرف أثر الكلمة، ويدرك خطر الفن، وهو حين أنشأ أبياته كان أدنى رحمًا إلى طبيعة الفن.

وفي كتب الأدب وأخبار الشعراء نظهر على قدر صالح من تلك الأبيات المتناثرة في هذا الكتاب أو ذاك، ومن بينها أربعة أبيات أوردهن ابن سلام الجمحي في كتابه الجليل «طبقات فحول الشعراء»، لواحد من أولئك الشعراء الذين لم يَجُد التاريخ بفضل من أخبارهم. يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد، و»كان قديمًا، وبقي بقاء طويلًا»:

إذا ما المرء صمَّ فلم يناجَى وأودَى سمعُهُ إلا نِدَايا

ولاعبَ بالعَشِيِّ بني بنيه كفعْل الهِرِّ يحترش العَظايا

يلاعبهم، وودُّوا لو سقوْهُ مِنَ الذِّيفان مترعَةً مِلايا

فلا ذاق النعيمَ ولا شرابًا ولا يُسْقَى من المرض الشفايا


وأنا لا أماري في غرابة ألفاظ هذا الشعر، فبيننا وبينه ستة عشر قرنًا من الزمان، ولكنني أحسب أنك لو قرأتَها مشفوعة بقراءة العلامة محمود محمد شاكر، في هامش «طبقات فحول الشعراء»، ستعرف أي جمال انطوت عليه تلك الأبيات، وأي معانٍ إنسانية قالها ذلك الشيخ الفاني، وهو يلاعب أولئك الأطفال، وهم يكافئون لعبه وعطفه عليهم، وكأنهم يعبثون بـ»عظاية» – أي سحليَّة! – وتعرف مقدار الهمّ الذي جثم على قلب ذلك الشيخ، وشعوره بأنه أصبح كالحمل الثقيل على بنيه، وقد كان في يوم ما، فتيًّا قويًّا.

يبلغ الفنّ مبلغه حين نقف على صورتنا منطبعة في كلماته، فلا نلبث، إنْ مررنا بتجربة تشبه ما عليه ذلك الشعر، أن تنبعث، من وراء القرون، أبيات، ما كنا نحسب أنها ستمس قلوبنا. يقول العلامة محمود شاكر: «دخلت أعود شيخي، رحمه الله، - سيد بن علي المرصفي – وقد كُسِرَتْ ساقه، فلما رآني أنشدني هذه الأبيات. وذلك أنه كان على أريكة، فجاء ابن ابنه الصغير، فظلّ يعاكسه فانقلب فوقع على الأرض، فأصيبت ساقه، وكان ذلك في آخر عمره، تغمده الله برحمته. وكان ذلك أول سماعي للأبيات فقرأتها عليه».