الرأي

شتاء لا يخلف وعده

«الشتاءُ باردٌ على من لا يملكون الذكريات الدافئة». هذا في قول فيودور دوستويفسكي الكاتب الروسي والعالمي العملاق، الذي كان لأعماله عميق الأثر على أدب القرن الماضي.

وهذا القول يشتمل على أنّ الذاكرة - بالإضافة إلى مهامها الأخرى العديدة - باعثة للتدفئة حسب ما تكتنزه من حكايات، اشترط دوستويفسكي أن تكون دافئة بالضرورة. وإن كانت غير ذلك فلا مجال للتأمل، فعلى من يفتقدها أن يستعيد اللحظات من خضم الأيام المكرورة علّه أن يجد المرام. وما أكثر حاوياتها، فبعضها مصبوب في كأس النار مرغمٌ ذاك التعِس أن يرشف منه رشفة شافية، وبعضه يتأرجح مع قوارب الريح لا تستطيع الإمساك به فقدره أن يفلت، وبعضٌ تمسه فيشتعل فترقبه من بعد لينير لك الطريق وتجد خلاصا ولا تظل حبيس الألم. وحتما بين أولئك الذين يملكون ذكريات دافئة والذين لا يملكون هناك حلّ وسط.

يمكن أن تُضم مقولة دوستويفسكي الأثيرة هذه بشكلٍ عام إلى آليات ومعينات التدفئة العديدة في تناولها شرابا كالزنجبيل، أو القرفة بالحليب، مثلا. أو مبدّدة برود الطقس مثل الحطب المصنّف الإسراف فيه ضمن مهدّدات البيئة العديدة، حتى تحوّل بفعل التحذيرات من مسرح السوق العادية إلى مسرح خلفي في السوق السوداء بفعل التهريب والاحتطاب الجائر.

وهنا فالحديث عن الأعشاب

ذو شجون، حيث ينتعش بدخول أربعينية الشتاء، وقبل أن يكمل فصل الشتاء لياليه الطويلة يكون قد سقى من رحيق أعشابه كل من يستطعم تلك الأنواع الخاصة ببعث الدفء وإزالة الاحتقان وتحقيق نوع من الاسترخاء. وقبل أن يتسلّم فصل الربيع مفتاح الدورة الطبيعية للفصول الأربعة، لتكتسي الأرض خضرة وجمالا، تتوشح هنا عصاري البيوت وأماسيها بعبق اليانسون والزنجبيل والزوفا وست الحسان.

يحدث هذا رغما عن أنّ كثيرا من الجدل يدور حول الحقائق العلمية للأعشاب الطبية. وما يمنع إماطة اللثام عن خصائص كثير منها هو إحاطة هذه الأعشاب بهالة سحرية، كمستودع أسرار علاجي عصيّ على الإفصاح به من قبل المروجين لها. وبعد أن أصدرت الهيئة العامة للغذاء والدواء في المملكة العديد من رسائل التوعية والتحذيرات من التجاوزات العديدة، بات الخوف على هذه الحديقة السحرية المليئة بالأسرار كبيرا خاصة على الأنواع التي تم تأصيلها ودخلت في أنواع الطب البديل، وذلك بسبب الغش في مكوناتها والتي رصدته الهيئة بأنّه قد يودي بالحياة.

أما بشكلٍ خاص في ليلِ نجد المعنونة (باريس العرب)، برودة طقس تجبرك على التزام الخُطى بعددٍ لا يفوق مستوى الحركة على سطح احتياجات بسيطة من طعامٍ يمدّ الجسم بالطاقة المطلوبة، وشرابٍ يبعث على الدفء واحتياجٍ لهنيهة نوم ٍ يستعيض بها الجسد عما فقده على درب السعي في هذه الحياة. في مثل هذا الليل تتناثر حكايات كذكريات دوستويفسكي بين الزمان والمكان تجمّل هذه الاحتياجات اليومية بل تُخرجها عن عاديتها إلى طقس آخر أشدّ وطأة.

يكاد الوقت شتاء يميل قليلا عن سابق عهده، حتى تباعد ساعته أكثر عن ساعة الزوال. وشيءٌ ما ضد تمايل الوقت وضد كل تمايل لروتين دقات الساعة المنضبطة. بالإمكان الجلوس هنا أو هنا أو هناك، وبالإمكان الاسترخاء على المقعد المعتاد.

كلٌّ يحسُّ الليل على طريقته الخاصة، ولكن أصدقاء دوستويفسكي يناجونه كما فعل ابن زيدون:

يا ليل طُلْ لا أشتهي إلّا بوصل قصرك يا ليل طلْ أو لا تطل لا بد لي أن أسهرك

لو بات عندي قمري ما بتُّ أرعى قمرك يا ليل خبّر أنني ألتذّ عنه خبرك

بالله قُلْ لي هل وفى فقال لا بل غدرك».