وعي السارد في رواية الساحلي

رواية آسرة، فيها براءة مدهشة لا تدري من أين تأتيك للوهلة الأولى، وفيها شجن إنساني يتكاثر عبر جمل سردية لا ادعاء فيها

رواية آسرة، فيها براءة مدهشة لا تدري من أين تأتيك للوهلة الأولى، وفيها شجن إنساني يتكاثر عبر جمل سردية لا ادعاء فيها. مرثية سردية كبرى للمكان وللبشر أحكم سعود الصاعدي بنيانها. تقرؤها مرة فتصدقها، وتقرؤها ثانية فيزداد تصديقك لها. تستولي عليك لتبدأ بعدها البحث عن الأسباب الخفية لكل هذا في تلافيف العالم التخييلي. 'الساحلي' هي رواية الصاعدي الثانية بعد روايته الأولى 'ساعة الرمل'، تجاوز فيها كل مزالق الكتابات الأولى فجاءت أكثر إحكاما وأشد تأثيرا، كل الطرق فيها تؤدي إلى السارد، لا يمكن تجاوزه والقفز فوق أكتافه لنطل على عالمه التخييلي ونتجاهله. وتفقد الرواية كثيرا من براءتها وشجنها لو تم سردها على غير الطريقة التي أتت عليها، لا أقصد بالسارد هنا سعود الصاعدي نفسه، هذا أمر تجاوزته نظرية الرواية الآن، وأصبح مستقرا أن من يحكي الرواية ليس هو تماما الشخص المكتوب اسمه على الغلاف. ما أقصده هو هذا الوعي الكلي الذي يمسك بكل خيوط الحكي ليقودها إلى مصيرها المحتوم، أكبر مما تسميه السرديات بوجهة النظر. فهو الطريقة التي يتم بها النقل في الحالتين والكيفية التي يمسك بها السارد -سواء كان سردا بضمير المتكلم أو بضمير الغائب- بعناصر العالم التخييلي وتفاصيله الصغيرة، واللغة التي ينقل بها، والأكثر أهمية هو موقفه العاطفي والفكري، وشكه أو يقينه إزاء قضايا عالمه التخييلي. وإذا كان مبدأ 'السرد مقابل التعاطف' من مبادئ الحكي الأساسية، فإن وعي السارد بعالمه أحد المداخل الكبرى لاستجلاب هذا التعاطف. وعي مزدوج وفق التصور السابق بدا وعي السارد في 'الساحلي' مزدوجا، وللوهلة الأولى متناقضا، فهو طاغية ومتسامح، عنيف ولين، قاس وراض، كل هذا في آن واحد. مع ذلك لا تملك إلا أن تصدقه فيما يحكي، يرسل لك عبر كل هذه التناقضات صورة ذهنية يشكلها لنفسه يطلب من خلالها أن تتجاوز عن أشياء وتتقبل أخرى، حتى إن فاجأك بأمر لا تتوقعه منه وهو ما سأعطي له مثالا في هذا السياق. دهشة الغياب تغوص الرواية في العالم المكي الآخر، العالم الذي يركز على ناس مكة العاديين، ويغيب فيها الحرم المكي أو يكاد، ويُسرِّع من وتيرة السرد وبخاصة في ثلثها الأخير برغم أنه لا يحضر بنفسه أبدا في أي من الصفحات. هل أتى هذا قصدا أو عفوا؟ لا شيء يأتي عفوا في الإبداع، وأنت حين تتجاوز دهشة الغياب شبه الكلي للحرم المكي في رواية تتحدث عن مكة، ستتقبل دوافع الكاتب ومقاصده، فهي مرثية مكان، والمكان هو أحياء مكة وشعابها. ويختار الصاعدي أحد أحياء مكة هو على الأرجح من ذكريات طفولته، يتتبع في هذا الحي مظاهر التغير التي تطرأ على البشر وعلى المكان، اختار من البشر أطفالا وتتبعهم حتى استووا، واختار أن يعرض للتغيرات الجغرافية التي يقوم بها أولو الأمر من أجل تطوير المدينة، وأثر ذلك على سكان الحي. لكن 'ثيمة' الرواية بهذه الطريقة لا تكشف إلا عن الخطوط العامة للعالم التخييلي، أما التفاصيل فإنها أكثر إدهاشا وأسرا. غياب الحوار يلفت النظر في الرواية شبه غياب للحوار، لا تجد منه إلا مواضع قليلة تتناثر في رواية طولها 190 صفحة. هل يمكن تجاوز هذا؟ وهل غياب الحوار له أثره على بقية تقنيات السرد؟ وما علاقة غياب الحوار بوعي السارد؟ وقبل الإجابة عنها يحسن أن نلتفت إلى القيمة السردية التي يؤديها الحوار في الحكي: -يعتبر أحد التقنيات التي ينتقل بها وعي الشخصيات إلى القراء 'الصاعدي يقدم وعيا محايثا لوعي السارد يتيح للرواية تعددا في الأصوات يجعلها أكثر غنى'. -يخلص السارد من التبعات الأخلاقية التي تترتب على نقل آراء الآخرين. -يجعل الشخصية تواجه مصيرها بعيدا عن تطفلات السارد وآرائه. عنف السرد ضرب السارد في 'الساحلي' بهذه القيمة عرض الحائط، وقبض على شخصياته، ومارس عليهم ما أسميه عنف السرد، ويظهر ذلك من السطور الأولى في الرواية، فحين يتحدث عن غنيم الساحلي، يقول 'يؤمن بالأقدار إيمانا لا تشوبه شائبة من أسئلة كثيرا ما تعترض طريق اليائسين'، أو يقول 'يدرك أنه يخطو خطوات العمر الأخيرة'. من اليسير هنا القول إن الصاعدي اختار ساردا كلي المعرفة، ومن ثم يجب ألا نسأله عن الطريقة التي دلف بها إلى حنايا شخصياته ليُظهر منهم المخبوء، وقد تكون الإجابة صحيحة، لكنها تولد سؤالا آخر، ولماذا لم يترك لشخصياته أن تُظهر ما تريد أن تظهره بنفسها؟ إن هناك آراء ترى في هذا النقاش شكلا من أشكال العبث السردي، فالسارد في كل الأحوال هو الذي يختار للشخصية أن تظهر على لسانه أو تظهر بنفسها، إنها كائنات تكونت في اللغة ولا تعيش خارجها، لكن حين نتذكر أن هناك شخصيات روائية أكثر حضورا وتأثيرا من مبدعيها، لا بد أن نعيد النظر في كل مقولاتنا ونقاشنا حول الشخصية الروائية. سيطرة السارد ما فعله السارد مع غنيم الساحلي كرره مع المستكاوي 'لا يستوعب عقل المستكاوي أن وراء سقوط كل رجل امرأة..' (ص: 39)، تتكرر في عدة أمثلة ألفاظ تتصل بما هو غير مرئي في السلوك البشري. ينسبها السارد لشخصياته بلغته هو اطمئنانا إلى قدرته على كسب تعاطفنا وتصديقنا له فيما ينقل عنهم، وهو من أجل أن يدعم مصداقيته فيما يتحدث به عن مشاعر شخصياته وإدراكهم ينقل لنا أيضا من سلوكهم ما يؤكد نهجه وطريقته في السيطرة عليهم. أراد السارد أن تكون روايته رواية حدث، لكنه وهو يفعل هذا ظل قابضا على السرد، فلم يشأ لشخصيته أن تفعل بعيدا عن وعيه مثلما لم يشأ لها أن تشعر وأن تدرك. أثر أسلوبه هذا على لغة القص التي غلبت عليها الماضوية، ومن ثم أثرت على طريقة إدراكنا للعالم التخييلي، فنحن في كثير من صفحات الرواية لا نشهد الحدث وإنما نتذكره مع السارد. زوايا الرواية الرواية مرثية مكان ومرثية عالم يتداعى ويتغير بأسرع مما يتصوره أصحابه وبأكثر من قدرتهم على مواجهته. أبطالها من الصبية الصغار الذين تتبعهم السارد حتى وصلوا إلى سن النضج، وما بين صباهم ويفاعتهم، والسارد مدهش حين ربط فترة الصبا بعدد من الأساطير التي وزعها بوعي فيما يقرب من ثلثي الرواية الأولين، ثم ظهر محسن في الثلث الأخير ليمثل طور الانتقال من التفكير الأسطوري للتفكير العلمي، وهنا تختفي الأساطير كلية، ويبدأ شباب الحي الذين كانوا أطفالا في البحث عن الأسباب الحقيقة للصراع في هذا العالم ولمواجهة كل التغيرات التي تداهمهم. وبعد أن كانوا يربطون كل ما يحدث في الحي بوجود غنيم الساحلي بينهم، وفي هذا الأمر تفاصيل حميمية مدهشة، فإنهم وهم يواجهون مخططات الحكومة في إنشاء الطريق الساحلي الذي سيمتد عبر حيهم والنفق الذي سيخترق الجبل وسط الحي طرحوا حلولا عقلانية تكشف إلى أي مدى وصل التغير إلى عقول هؤلاء الذين كانوا صبية. غياب المرأة ما يبدو لافتا للنظر الغياب شبه الكلي للمرأة في الحكي، لا يدحض هذه الملاحظة حضور مرشودة، فالدور الذي قامت به مرشودة لم يرتبط أبدا بأية قضايا تخص المرأة في المجتمع المكي، حتى الحكي الذي قرنه السارد ربطا ذكيا بها لم يشفع للرواية الغياب النسائي فيها. ما تبرير هذا؟ تبريرات كثيرة يمكن أن تقدم هنا قد يكون من بينها أن السارد لم يحك إلا التجارب التي عاشها أو رآها، وأن حضور المرأة بطريقة أو بأخرى قد يخدش هذا التماسك النفسي والعاطفي الذي أراده لحكايته. بدا حييا خجولا حتى وهو يحكي عن فترة المراهقة التي مر بها المستكاوي، وهو يصف تجربته الوحيدة مع وضحى التي اكتشف من خلالها رجولته، وهو يصف التغيرات البيولوجية التي طالته وهو يمر من فترة الصبا إلى مرحلة المراهقة. المسمى للوهلة الأولى يظن القراء أن الرواية تحمل اسم 'الساحلي' الذي هو غنيم الساحلي الذي تُفتتح به الرواية، وهو أمر غير دقيق تماما. فغنيم الساحلي يظهر في فصول الرواية الأولى ليفسح المجال بعد ذلك إلى الشخصيات الأخرى: المستكاوي ومسلط ومرشودة وجابر، ثم يتوارى قليلا ليظهر ظهورا خافتا ويختفي، ولا يظهر إلا في فصول متباعدة. ثم نفاجأ بخبر موته على لسان السارد دون أن يعطيه حقه السردي مثلما فعل وهو يبتدئ به الحكي. ويظهر بدلا منه ساحلي آخر هو الطريق الذي تنوي الحكومة أن تمهده مرورا بالحي، وإذا كان الساحلي الأول ارتبط بمرحلة الأساطير والخرافات، فإن الثاني ارتبط بمرحلة التفكير العلمي، وعلى ذلك فإن عنوان الرواية حمل دلالة مزدوجة منحتها قيمة كبيرة. رواية مدهشة، يمنحك من خلالها السارد حالة تصالح وسكينة مع العالم، وظني أنها خطوة أكثر تقدما في مسيرة سعود الصاعدي السردية.