الرأي

الدولة المدنية انعكاس لخطاب قرآني

زيد الفضيل
كثيرا ما أفكر في دلالة قوله تعالى من سورة النساء «وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره»، وقوله تعالى في سورة الأنعام «وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره»، وأسأل نفسي: هل بعد هذا السلوك سماحة ويسر؟!

في الآية الكريمة إشارة إلى قوم يكفرون بآيات الله، ولا يقف حالهم عند ذلك وحسب، بل ويستهزئون بها، وهو سلوك مشين لا يمكن قبوله على الصعيد الإنساني، وحتما فالغضب الشديد سيكون مآل من يستهزئ بقول من أقوالنا، ولا مناص من تصعيد الأمر في حال استمرار أحدهم في الاستهزاء بما نقول، وقد يصل بنا الحال إلى حد القطيعة وإيقاع العقاب عليه أيا كان نوعه وطريقته، لكن ذلك لم يكن سمة للآيتين اللتين ابتعدتا في مدلولهما ومضمونهما عن هذا البعد الشخصي الغاضب، فكان أمرهما محصورا بأن يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أولئك الكافرين المستهزئين بآيات الله ويغادر مجلسهم، ثم إذا خاضوا في موضوع آخر عاد إليهم وهو محتفظ بهدوئه وسلوكه الإنساني الطبيعي، فهل بعد هذا سماحة ويسر؟!

لقد أراد الشارع جل جلاله أن يؤسس لمفهوم إنساني يحكم سلوكنا إزاء بعضنا البعض، بعيدا عن استحكام حالة الوصاية التي تقمصت كثيرا من تفاصيل هويتنا، انطلاقا من إيماننا الخاطئ بأننا الموقعون عن رب العالمين في حكم هذا الكون، وأننا مخولون لإقرار ما يجب أن يكون وفق رؤيتنا واجتهادنا بالقوة والجبر، بغض النظر عن مدى صحة ما نؤمن به، ونرجو نشره بين الناس، وهو ما أكده الشارع في محكم كتابه لخاتم أنبيائه بقوله «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ»، وقوله «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء»، ثم تقريره بوظيفته الخطابية وحسب في قوله «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر»، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على رفض حالة الوصاية الدينية على الآخر، وهو ما تطالب به الأنظمة الحديثة ضمن ما يعرف بأدبيات الدولة المدنية، تلك الدولة التي يتحرر نظامها من أي وصاية دينية، ويحتكم إنسانها إلى القانون المتفق عليه، ولعمري فذلك ما تنص عليه الآيات السالفات في مضمونها ودلالتها.

أمام ذلك، ألا يجب أن ننحو بمجتمعنا صوب تطبيق أسس ومعايير مفاهيم الدولة المدنية، حتى ننعتق من عنق الزجاجة كما يقال، ونخرج من عمق أزمتنا على الصعيد الوجودي من جهة، والإشكالي مع الآخر المختلف من جهة أخرى؟ ألم يئن الأوان لأن نؤمن بتعدد شرائع الله ومناهجه، وأن الحاكمية لله وحده، فهو المخول بأن يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، مصداقا لقوله تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون».

تجدر الإشارة إلى أن الدولة المدنية وهو مصطلح حديث، تعني: الدولة التي تحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والفكرية، إيمانا بمبدأ السلام، والتسامح، وقبول الآخر، والمساواة العادلة في الحقوق والواجبات، ودون أن يصاحب ذلك أي رفض أو معاداة لتلك القوميات، ولمختلف الأفكار الدينية، انطلاقا من مبدأ الإيمان بأهمية التعدد والتنوع لإثراء أي مجتمع، وبأن الحاكمية لله وليست لأحد من خلقه، فهل يسعنا كأمة عربية اليوم ـ ونحن ندلف عباب قرن جديد ـ أن نعيد رسم خارطتنا الحياتية، ونصحح مسار التعاطي المجتمعي مع بعضنا البعض، ومع غيرنا، ليتوافق مع مضمون كتابنا الكريم؟

@zash113