الرأي

الموظف الأكاديمي الكفء ومخاطر «التشلشل»

بندر الزهراني
هناك أكثر من تعريف وتوصيف للموظف الكفء، نجدها بسهولة متناهية، إما في كتب إدارة الموارد البشرية أو منشورة على مواقع الشبكة العنكبوتية، وبالتالي فإن عملية العثور على الموظف الكفء ليست عملية صعبة أو معقدة، بل وكذلك صناعته ليست أمرا مستحيلا ولا صعبا، إذن أين المشكلة إن كان هناك من مشكلة حقيقية؟! المشكلة التي قد لا تخلو منها كثير من القطاعات الحكومية والخاصة، وتعاني منها مفاصل الإدارات الهيكلية، تكمن في كيفية المحافظة على الموظف الكفء وتبنيه ورعايته والاهتمام به، ولعله من الضروري مناقشة سبل حماية الموظف الكفء ذاتيا وأدواتيا، لما لذلك من أهمية بالغة في حماية الموارد المالية والاستحقاقات المعنوية للمؤسسة التعليمية التي ينتسب لها.

إن أخطر ما يواجهه الموظف الأكاديمي الكفء ويقضي على نزاهته وطموحاته ونشاطاته وجود «الشللية» في البيئة الأكاديمية، ودعوني أستخدم مصطلح «التشلشل» الغريب علميا نوعا ما، والمألوف عمليا وواقعيا، فمدلول لفظ التشلشل إذا اتفقنا على استخدامه للدلالة على الانتماء لشلة معينة باختيار شخصي فإنه من ناحية لغوية يعني الانسياب، وفي واقعنا العملي يعني قابلية الموظف الأكاديمي للانخراط الكلي والتماهي المطلق والانسياب الفعلي في مجموعة أو مجموعات تعمل معا بشكل متناغم ومتوافق في العلن أو في الخفاء، وتقدم لبعضها البعض مصالح متبادلة ومنافع متنوعة، وفي الوقت نفسه تقوم بتحييد نشاط الأفراد والمجموعات الأخرى بكل السبل المتاحة أمامها والممكنة لها، وبغض النظر عن الأعراف والتقاليد الأكاديمية بل وحتى مشروعية ما تقوم به من ممارسات وتجاوزات.

يقول أحد الأكاديميين القدامى إنه ذات مرة جاءته معاملة رسمية من أحد عمداء العمادات المساندة، وكان يطلب منه ومن بقية الأقسام العلمية تقديم أفكار إبداعية جديدة من شأنها تطوير عمل عمادته، ثم يقول إنه من باب تطوير المؤسسة التعليمية كنا نرسل له مجموعة من المقترحات الجيدة وبشكل دوري، فكان إذا حضر اجتماعا مع الإدارة العليا في الجامعة نسب تلك المقترحات لنفسه، وهذا لا بأس به، طالما أن المصلحة هي تطوير المؤسسة التعليمية التي كنا ننتمي لها جميعا، ثم يضيف أنه من المفارقات والمضحكات المبكيات أنه قابل هذا العميد على هامش إحدى اللقاءات، فوجده عاديا ومتواضعا ثقافيا، بل كان لا يحسن الحديث بشكل أكاديمي راق، ولو على الأقل بما يعكس قيمة منصبه الإداري، وبالمناسبة هذه الحالة التي يرويها زميلنا الأكاديمي ليست حالة غريبة أو شاذة، لا على الإطلاق، فهي موجودة ومنتشرة، وربما كانت ظاهرة تستحق التوقف والدراسة، فهؤلاء لا شك أنهم نجحوا في إظهار ولاءاتهم لمجموعات التشلشل المنتشرة هنا وهناك، وأصبحوا فيما بعد أركانا رئيسية فيها، وإلا لما تقلدوا مناصب إدارية مختلفة وهم دون المستوى.

لعل من أهم أسباب نشوء مجموعات التشلشل الأكاديمي في الأوساط العلمية طبيعة الأنظمة في اختيار الموظف الأكاديمي، وأقصد بذلك نظام الترشيح المعمول به في كل الجامعات المحلية، فالترشيح هو لب المشكلة وأساسها، كيف؟ الترشيح في العادة لا يتم من قبل لجنة مستقلة، ولا يقوم على أسس ومعايير محددة وواضحة، ولا يخضع للكفاءة والثقافة والأمانة، كلا، وإنما يتم الترشيح من قبل الرئيس المباشر للجهة المعنية، إما بمعرفة شخصية وولاءات خاصة أو بإيعاز من شخص آخر يحظى برضا الرئيس ومباركته أو له درجة تقربه منه، وهذا الرئيس أو من يرأسه يرشح ثلاثة أشخاص للوزارة، ثم لاحقا هو بنفسه يختار من يريده منهم، وفي الغالب الوزارة لا ترد ترشيح الرئيس، ومن الواضح أن نظام الترشيح هذا أنتج شللا أكاديمية كثيرة، مما جعل اختراقها فضلا عن تفكيكها وإزالتها أمرا في غاية الصعوبة.

إن المجموعات المتشلشلة في الجامعات أشبه ما تكون بالعصابات المتمرسة، فالمتشلشل نفسه حينما يقع في شبكة إحدى الشلل الأكاديمية يتلوث فكريا وأدواتيا، ويصبح رهينة لكل ما تمليه عليه قواعد اللعبة الجديدة وما تقع فيه شلته من أخطاء وتجاوزات إدارية قد يرقى بعضها إلى جريمة الفساد.

ولذلك ربما يكون من المفيد لمعالي رئيس هيئة مكافحة الفساد أن يبدأ بالتفكير في استخدام طرق فعالة وناجحة لاجتثاث مثل هذه الشلل الفاسدة من المجتمعات الأكاديمية، والسعي مع الجهات الحكومية الأخرى نحو إبطال نظام الترشيح هذا، واستبداله بنظام جديد يبنى على معايير رقمية واضحة ومحددة، مع الأخذ بعين الاعتبار أفضل الممارسات المطبقة في أرقى وأفضل الجامعات العالمية.

بقي أن أقول إن هذا المرض العضال إذا وجدناه منتشرا في أهم مفاصل الإدارة الأكاديمية وأعلى هرمها الهيكلي، واستشرى في النخب المثقفة، فإن وجوده في القطاعات غير الأكاديمية أمر واقع لا مفر منه، وعلينا إن أردنا للموظف الكفء احتلال الصدارة والإمساك بزمام القيادة الإدارية على اختلاف مرجعياتها، أن نتخلص من التشلشل بكل أنواعه، وهذا قد يكون من خلال مراجعة أنظمة التوظيف والتعيين في مناصب قيادية، وكذلك الترقية وصرف البدلات والمزايا ونحو ذلك، ولا بد من إعمال مبدأ المراقبة والمحاسبة وبشكل صارم، ولا بأس إن عدنا لتقنية «الفار» لتقييم أهداف المتشلشلين الحاليين فلربما غالبيتها سجلت وهم في حالات تشلل واضحة!

drbmaz@