الرأي

البحث وأزمة الثقة

دلال بنت عبدالرحمن
فيما يخص البحث العملي، كنت ولا أزال أرى أن أصدق الدراسات وأدق البحوث هي تلك التي تعايشها وتتعايش معها، وتدرك خباياها، ولا تخفاك أسرارها، تستوطنك بهمومها، وتنعشك نجاحاتها. إن تحدثت عنها أجدت الحديث وأتقنت التعبير، وإن حاولت العلاج والتشخيص فأنت بالصغائر والكبائر خبير. فالباحث أشبه ما يكون بالطبيب ولكل طبيب تخصصه ومجاله، وهذا ما يجعلني أستغرب كثيرا من الباحثين القلائل الذين يسخرون دراساتهم وأدواتهم في ميادين لم يدخلوها ولم يعملوا بها، أو في بيئات لم يسبروا أغوارها، أو في منظمات لم يحيطوا بمشكلاتها ولم يساهموا بحلها يوما!

كنت في مرحلة البحث أمتلئ إيمانا بما ذكرته في الأسطر الأولى من هذا المقال، وبصفتي إحدى المحظوظات اللاتي تدرجن في الميدان الإداري والإشرافي والقيادي في وزارتي الموقرة، لم يطل العناء ولم يتعبني البحث عن موضوع الدراسة، فالمشكلات والهموم كانت فوق الطلب، وحيثما وليت وجهي وجدت أكثر وأكبر، فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

لم أتحير كثيرا إلا بين موضوعين، كان أحدهما أشد مرارة وحساسية من أخيه فتركته، وقد لامسني شخصيا، وأحسست بحرقته. وتوجهت سهام الدراسة إلى موضوع الثقة داخل بيئات العمل، فالثقة بين العاملين بكافة مستوياتهم وإن علت، وبين الإدارة العليا للمنظمات موضوع شائك وحساس لدرجة قد يصعب التعبير عنها أو وصفها من قبل بعض المدراء والقادة، محرج جدا بالنسبة لهم أن تستفسر منهم عن مدى ثقتهم بالمنظمة التي يعملون تحت سقفها، أو عن شعورهم بأنهم محط ثقة لها، وقد يكون الشعار المرفوع هنا «هي أشياء ندركها بشعورنا، ولا يمكن أن تخطها أقلامنا، أو ننطقها بكلماتنا».

والحقيقة أن نتائج الدراسة المنخفضة لم تكن صادمة بالنسبة لي، ذلك لأني كنت قد نشأت «وظيفيا» تحت سقف المنظمة ذاتها، وما أنا إلا واحدة من أولئك «الشاعرين»، فأدركني من الشعور ذاته، ومن الألم مرارته.

وعلى الرغم من الجهود البحثية التي تناولت موضوع الثقة التنظيمية، إلا أن طموحات العاملين، حتى المديرين والقادة منهم، ما زالت تنتظر محطة وصول. وقد كانت الحلقة الأضعف في الدراسة تتلخص في السياسات الإدارية ونظم المعلومات والبيانات، ونظم التحفيز التي لم تلامس حاجات العاملين، وأبعاد أخرى لا تستوعبها هذه المساحة.

وخلاصة القول الذي أرجو أن يصل إلى أعلى المستويات، أن الثقة التي نبحث عنها جميعا داخل بيئات أعمالنا مهما اختلفت وتعددت - فاختلاف البيئات لا يفسد للثقة مفعولا! - تلك الثقة لا تحتاج إلا لغذاء يحميها من الهلاك، ويبني ما انهدم من جسور بين العاملين وبين المنظمات، وقد يكون الارتقاء بالسياسات الإدارية، وتمكين العاملين ومنح الصلاحيات هي الغذاء المنشود والدواء المفقود. وبتحقيقها تحقق أشياء أعظم تبدأ وتنتهي بالشعور بالطمأنينة والأمان، مرورا بالرضا والسعادة وجودة الحياة داخل بيئة العمل، حينها وحينها فقط تصبح ثمار الإنجاز والتميز للمنظمة يانعة تقطفها كل موسم.

@darifi_