الرأي

السوشال ميديا وعرض الأزياء.. وحكاية النسوية السعودية

رابعة منصور
«النسوية» مصطلح تكلم وكتب عنه كثيرون، لذلك لن أضيف أو أسهب في ماهيته أو منطلقاته وتاريخه، لأن ذلك سيكون ببساطة تكرارا لخطأ من تبنى النسوية، وخطأ من قيّمها انتقادا غالبا.

كلا الفريقين لم ينجح - برأيي - في المهمة، لكني أتفهم أسباب كل منهما، وهذه النقطة تحديدا هي محور مقالي هذا، ألا وهي النسوية السعودية؛ ما منطلقها وأدوات إلهامها ووقود بقائها وسقطاتها؟ وأختم بمدى صوابية الهجوم عليها.

أطلقت الحكومة شرارة عصر تمكين المرأة عندما فتحت باب الابتعاث على مصراعيه في عصر الإعلام الجديد، وتحملت في سبيل ذلك كل التحديات المتمثلة في الاختلافات الثقافية للشعب، ودفعت كل ما يمكن دفعه معنويا وماديا لتتخطى العقبات وأتاحت الفرصة لجميع أطياف الشعب إناثا وذكورا من كل الطبقات الثقافية وبأي حالة اجتماعية كانوا، بعد أن كانت الدراسة في الخارج حكرا على طبقات ثقافية واجتماعية معينة.

هدف الدولة كان أبعد من توفير كفاءات علمية. الهدف كان منح تجربة بآفاق مختلفة للمواطنين، لخلق واقع ثقافي جديد يتناسب وتطلعات الدولة للمضي في تنفيذ خططها الطموحة، إيمانا منها بأن الشعب، كل الشعب، هو وقود الواقع المنشود، وهنا أذكر مقولة الأمير خالد الفيصل في إحدى مقابلاته «نحن الدولة الوحيدة التي تتطلع للتغيير ويشدها الشعب للوراء»! عبارة مقتضبة تعكس دراية المسؤول بتفاصيل الصورة المجتمعية وما تشكله من تحد.

ومرة أخرى تلعب الفروقات الثقافية للشعب لعبتها، لكن هذه المرة في عصر السوشال ميديا. أثر الصدمة الحضارية في بلاد الابتعاث كان كبيرا على الطلبة من الطبقات الثقافية البسيطة لدرجة أفقدت البعض توازنه! وإذا أضفنا عوامل العمر المبكر وما يصاحبه من رغبة عارمة في الوجود وإحداث الأثر، خاصة في حقبة وجدت فيها منابر صنع النجومية لكل من ينشدها. حركت الرغبة العارمة في الظهور والشهرة فئة المنصدمين حضاريا من المبتعثين شبابا وشابات في مناح مختلفة، ولعبت عوامل الجندر والصدفة دورا في تحديد تلك المناحي.

ففي ميدان الصدفة، رسمت الأقدار مصير إحدى المبتعثات البسيطة فكرا ومنطقا وسلوكا ومظهرا وأحلاما. خرجت تلك المبتعثة على وقع صدمتها الحضارية بمقطع تصف فيه محيط مجتمعها بـ «الزبالة» امتعاضا على غطاء الوجه، وهي تري مشاهديها مباني الجامعة التي تدرس فيها. سلوك ساذج في مقطع موجود حتى الآن، جعل من الطالبة المنبهرة مشهورة بين ليلة وضحاها!

أقطاب شهرتها فريقان: فريق يستنكر سلوكها، وفريق آخر جل أفراده من الفتيات ينتمين لذات البيئة الثقافية للمبتعثة التي وعت على جمهور عريض من المؤيدات، يرين فيها الصوت العالي الذي يتحدث نيابة عنهن! جمهور وشهرة جعلا من الطالبة، النكرة سابقا، تفكر رغما عنها في الخطوة التالية التي تضمن بقاءها على ساحة الشهرة، لكن ضمن حقيقة أخرى وهي أن مجال الشهرة لن يكون إلا فيما يخص حقوق المرأة السعودية، وهنا تكمن قمة «المسكنة» في رأيي.

جماهير تتوقع المزيد، وأفق بسيط لطالبة لم يسعفها إدراكها لأن إمكاناتها أقل من أن تجعلها قادرة على تحديد السبل والأدوات الصحيحة لمواصلة الطريق الذي وجدت نفسها فيه؛ فأكملت طريقها باستخدام ذات السلوك الساذج الذي تبنته أول مرة، مقاطع فيديو محدودة تفضح فراغ منطقها، وقيادة سيارتها من الإمارات للسعودية بغرض استمرار حشد الجماهير وإشباع نهم الشهرة الموجود لدى أغلب البشر في العمر الفتي. وفعلا تحقق الهدف مرة أخرى؛ شهرة أوسع وصلت للعالمية هذه المرة بسبب تشابك العالم الكترونيا، وبالتالي ثقة أكبر من الشريحة المستهدفة، ومسؤولية أكبر لمواصلة طريق لا تمتلك أدوات السير فيه.

على ضفة ثانية، حملت مبتعثة أخرى من بيئة بسيطة حلمها في نجومية عرض الأزياء في حقائبها لأمريكا (حلم عرض الأزياء مشترك لمعظم البنات)، وسارت بخطى حثيثة مدروسة لتحقيق الهدف. النجاح الذي حققته تلك المبتعثة والذي أدخلته وسائل التواصل في كل بيت، دغدغ أحلام كل الفتيات من الطبقات الاجتماعية المشابهة لطبقة العارضة السعودية، وجعل من الابتعاث الحلم الأول لمعظم الفتيات لتحقيق ما بعده من أحلام، وأذكر هنا عبارة الفتاة الهاربة التي ظهرت في برنامج داود الشريان «كنت في كل مرة أرى فيها (...) أخاف أن يمر عمري دون أن أحقق حلم عرض الأزياء».

بداية القصة

حلم الابتعاث للبنات واجه في بعض الطبقات الثقافية رفضا لأسباب مختلفة. وهنا كانت بداية قصة النسوية السعودية. مصطلح «نسوية» وفر انتماء لجماعة، والجماعة كما يعرفها (بونر، 1963) فرع من فروع علم النفس الاجتماعي يبحث في تكوين وبناء الجماعة وتغيرها عن طريق جهود أعضائها لإشباع حاجاتهم.

الانتماء للنسوية وفر صوتا عاليا لكل من أراد التعبير والبوح بأي شكل وأي موضوع كان باسم حقوق المرأة! انضوى تحت ذلك المسمى وتلك الجماعة كل الأعمار وكل المشارب واختلطت الأصوات المطالبة ليغني كل منها باسم الحقوق على ليلاه!

ومن المظاهر العشوائية التي تمخضت عن الحديث باسم النسوية وحقوق المرأة:

01. أصوات تتحدث عن الحرية الجنسية وتشجع عليها، وتدل على كيفية مداراتها عن الشريك المستقبلي! بحجة أن الحرية الجنسية للمرأة هي أحد منعطفات نيل المرأة حريتها وجزءا من حقوقها!

02. أصوات تطالب باندماج الجنسين في التعليم.

03. مطالبات بحقوق المثليين والمتحولين!

04. ذم وانتقاد كل وأي إنجاز ينجزه الوطن.

05. تحقير مدقع للرجل السعودي خاصة، والعربي والمسلم والشرقي عامة.

06. تحقير أي رأي لامرأة تخالف التوجه العام للتيار، وتجلى ذلك في حروب الفضاء الالكتروني ضد كل من أبدت رأيا مغايرا، لدرجة تمت «منشنة» كل حسابات الشركات التي قادها سوء حظها للتعامل مع عربي/ة!

07. تماه كامل مع المهاجرين السعوديين من الجنسين، والذين تحول بعضهم للمعارضة وصارت وسائل الإعلام الأجنبية مزارا شبه دائم لمن تعنون بعنوان «النسوية»!

08. نسب كل تطور وطني وأي إنجاز لأي امرأة لـ «لنسوية»!

09. خلط التاريخ بالجغرافيا والدين والتقاليد والمال والسياسة والجنس والإنجاب والإجهاض وقدرة الرجل الجسدية وصفاته الخلقية وحقوق الحيوان بحقوق المرأة!

وهنا لا بد من وقفة لذكر الحقائق المهمة التالية:

01. المرأة والرجل السعوديان ينتميان لطيف ثقافي واسع تحدده مؤثرات جغرافية وثقافية وتاريخية ومالية، لذلك وجدت النساء اللاتي درسن في الخارج منذ سنين طويلة قبل عقود من فتح باب الابتعاث، وتقلدن مناصب وحزن احتراما لإنجازاتهن من الدولة والرجل السعودي، قبل أن يوجد مصطلح النسوية في الفضاء الالكتروني.

02. يوجد طيف واسع من النساء اللاتي تعلو أصواتهن في الفضاء الالكتروني رفضا للحديث باسمهن كنساء سعوديات بمسمى «النسوية».

03. كل متفحص لميدان ما يسمى بـ «النسوية»، سيدرك من محتوى الحسابات أن طيفا واسعا ممن ينضوين تحت مسمى النسوية هن من بيئات ثقافية منخفضة نسبيا وعالية القيود الاجتماعية، لذلك تبعات تلك الثقافة حاضرة بقوة على سلوكهن الذي تجلى بشكل يخلو من الرقي المعرفي والسلوكي والمنطقي في الفضاء الالكتروني.

04. حقيقة أيضا أن مسمى النسوية أعطى صفة لكل نكرة باسم حقوق المرأة، وهنا أذكر عبارة إحدى المنتسبات لهذا المسمى «النسوية انتشلتني من الجنون والوحدة»، لأن هذا المسمى واقعا جعل لتلك «النسوية» وغيرها كثيرات صفة وجمهورا خولاها لتوزيع صكوك الولاء النسوي على جمهورها!

صارت تلك الشخصية التي لم تكن يوما شيئا يذكر تتكلم في السياسة، وفي كل حدب وصوب، رغم أنها «محدثة ثقافة» لكن تلك هي الحقيقة.

05. حقيقة أيضا أن موضوع حقوق المرأة تم استخدامه من قبل كل الأطياف داخل وخارج المملكة. ففي الداخل استخدم موضوع حقوق المرأة والنسوية لتصفية الحسابات البينية! والتسلق على إنجازات الأفراد والدولة، وفي خارج المملكة استخدم موضوع الحقوق من قبل «المعارضة» ومن قبل كل من أراد النيل من السعودية.

الفروقات الثقافية حقيقة واقعة في كل زمان ومكان، ولا ولن يمكن محوها، وفي هذا المجال لا بد أن نذكر أن نوع الصعوبات التي واجهتها الدولة من المبتعثين المنتمين لطبقات متدنية ثقافيا لم تواجهها أبدا مع المبتعثين من خلفيات ثقافية أرقى.

وعليه فالمرأة السعودية التي تمتعت بميزات ثقافية أعلى لا فضل لأحد عليها، وإنجازاتها هي إنجازاتها الذاتية قبل وبعد ما يسمى بـ «النسوية»، وعليه أيضا فإن إنجازات الدولة هي إنجازات الدولة لأبنائها وليست إنجاز أحد، وكامل الحرية والحق مكفول لطيف السعوديات اللاتي يرفضن الحديث باسمهن تحت عنوان «النسوية»، فالمرأة السعودية ليست أبدا طيفا واحدا ينتمي لثقافة وواقع واحد، المرأة السعودية طيف واسع ولا يحق ولا يُسمح لأحد أن يتجرأ على الحديث عنها وعن إنجازاتها باسم النسوية.

حقوق المرأة عالميا وفي السعودية

تاريخيا وحول العالم دائما كانت المرأة الحلقة الأضعف في السلم أو الأزمات. وليومنا هذا أسهمت ظروف عدة في تبديل واقع المرأة سلبا أو إيجابا، بمعنى أن بعض المكتسبات التي كانت في ظاهرها لصالح المرأة أثبتت الأيام أنها تسببت في بؤسها.

معظم الظروف التي خلقت واقعا جديدا وانتصرت على موروثات مسلم بها عن المرأة، كانت في الغالب ظروفا ورؤى اقتصادية بامتياز؛ كتلك الظروف التي جعلت المرأة الألمانية تنخرط في وظائف لم تكن تخوضها قبل الحرب العالمية الثانية، أو الرؤى التي رأت في انخراط المرأة عوائد اقتصادية في الدول التي تشكل الضرائب أحد أعمدة الدخل فيها، لدرجة أن الهدف من ترخيص دور الدعارة في ألمانيا وسن القوانين المنظمة للعمل فيها، هي أهداف اقتصادية بحتة على الرغم من التبعات المعنوية والصحية السيئة لها على المرأة.

وطالما استمر العالم فالإنسان في تطور يتوازى مع احتياجاته ويتوافق مع تغير الظروف المحيطة به، وتسن الدول تباعا الأحكام التي تتماهى مع تلك المتغيرات وتصب في صالح الشعوب، لأن الهدف الأخير حتما هو استقرار الدول الذي هو من استقرار الإنسان والمجتمعات فيها. والمملكة ليست إلا جزءا من هذا العالم الذي صار متشابكا بسبب ثورة الاتصالات.

المرأة كمحور في المجتمعات يتغير واقعها ويتأثر ضمن تيار التغيرات الحاصلة في كل دول العالم؛ كنتيجة حتمية لتطور تعليمها وواقع مشاركتها في اقتصاد الأسرة والدولة، مما جعل الحركات النسائية المطالبة بقوانين تضمن حقوق المرأة تنشط في دول كثيرة شرقية وغربية على حد سواء، وتختلف المطالبات في كل دولة باختلاف واقع المرأة فيها.

كل ذلك يقودنا لواقع المرأة السعودية ضمن حقيقة ارتفاع مستوى تعليمها ومشاركتها الاقتصادية في الأسرة، وأيضا ضمن واقع التحديات الاقتصادية التي تعيشها الدولة كجزء من العالم، والحاجة لتفعيل دور المرأة كعامل مهم في تسيير العجلة الاقتصادية.

هدف تفعيل دور المرأة جعل الدولة تتخذ قرار تمكينها لاستثمارها واستثمار ما أنفقته الدولة أساسا لتحقيق هذا المستوى العلمي المتميز الذي حصدته المرأة السعودية «المرأة السعودية الأولى عربيا والـ 10 عالميا في الأكثر تعليما».

وسارت الدولة قدما لتنفيذ هدفها الاستراتيجي في تمكين المرأة السعودية على الأرض ضمن خطط شاملة تضمنت تشريعات وقرارات تضمن وتحمي الهدف المنشود، لكنها كانت تعي تماما التحديات المتمثلة في اختلاف الواقع الثقافي للشعب.

والاختلاف الثقافي للشعوب واقع حقيقي في كل زمان ومكان، ويشكل أحيانا تحديات للأفراد كما الدول تماما، فزواج القاصرات على سبيل المثال لا الحصر ورغم إصدار العديد من القوانين المقيدة له إلا أنه ما زال موجودا في بيئات ثقافية معينة في أكثر الدول تقدما، على سبيل المثال تنتشر في الولايات الجنوبية في أمريكا حالات الزواج بالإكراه (shotgun weddings) لتلافي الإحراج الناتج عن حالة حمل غير مرغوب بها بسبب اعتقاد يسود في تلك المناطق مفاده بأن وسائل منع الحمل والإجهاض هي تصرف آثم. ولا بد أن أذكر أن التبعات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحملها الدول جراء الاختلالات الثقافية إن صح التعبير كثيرة.

عدم إدراك جوهرية محور اختلاف الواقع الثقافي لشعب المملكة شكل معضلة أو لنقل بمعنى أدق عامل فوضى ساهم في خلط الحابل بالنابل في قضية حقوق المرأة المثارة اليوم حول العالم كما أسلفت.

الفوضى تكمن في الإصرار على تمييع واقع المرأة السعودية في بوتقة وقالب واحد، ورفض حقيقة اختلاف حال المرأة السعودية كما هو الحال في أي بقعة أخرى من العالم. رفض الاختلاف هذا أمر يجافي الحقيقة بكليتها وتفاصيلها، فالحقيقة هي أن حال المرأة السعودية مختلف، لدرجة أن بعض السعوديات من مستويات اجتماعية متوسطة تلقين تعليمهن خارج المملكة منذ زمن بعيد بسبب المستوى الثقافي العالي لأسرهن أو المناطق التي ينتمين لها، والنماذج من تلك الفئة كثيرة وشهدت لهن المملكة بالمناصب والثقة التي منحتهن إياها.

وفي ضفة أخرى من الاختلاف، توجد المرأة السعودية التي تسير حياتها على خير ما يرام، وأيضا بسبب الواقع الثقافي الذي ضمن لها حياة مستقرة جعلتها ترفض الحديث باسمها كامرأة سعودية، وأخيرا توجد المرأة السعودية المكبلة بقيود اجتماعية فرضتها بيئتها الثقافية التي تنتمي لها، وغالبا تذمر هذه الفئة يشمل تفاصيل لا تذكر لدى الفئات الأخرى من النساء، منها على سبيل المثال تعقيدات اختيار الزوج، والملبس، وحرية الحركة.

تعدد الأقطاب وإصرار طرف واحد منها على التحدث باسم الكل، وفرض واقع فئة على الجميع أسهمت جميعها في الفوضى الحاصلة. الحكومة واجهت هذا الخلط بالصمت واستمرت في تنفيذ رؤيتها، لدرجة أن بعض النماذج التي نصبت نفسها متكلمة باسم حقوق المرأة السعودية نسبت لنفسها الإنجازات التي حققتها الدولة وفق خططها التنموية الاستراتيجية، وهذا القفز على إنجازات الدولة خلق مرة أخرى لغطا وفوضى على الفوضى القائمة أصلا.

خلاصة الحديث:

إن تسمية الأمور بمسمياتها الدقيقة، وتشخيص الخلل بدقة، هما المرتكز لأي علاج ناجع، وخطف الإنجازات لن يقابل أبدا بالرضا والتسليم. معاناة فئات معينة هي في سبيلها للحل، لأن ذلك من أولويات الدولة لتحقيق مصالح عليا، لكن تلك الحلول لن تغير أبدا من واقع فئات شتى للمرأة السعودية التي تعيش في استقرار وبنجاح.

إذن، هل آن الأوان لنرى طرحا ينهي الفوضى الحاصلة ويجرؤ على الإشارة بدقة لمشكلاته تحديدا، دون التطفل على الجميع بهدف إحراز بطولات فردية؟!

rabeahmansoor@gmail.com