ماذا لو كان الإنسان بيضة؟
الثلاثاء / 16 / رمضان / 1440 هـ - 22:00 - الثلاثاء 21 مايو 2019 22:00
يستخدم في التدريب نموذج لتمثيل الشخصية - عدم المؤاخذة – بالبيضة. يتكون البيض من ثلاثة أجزاء رئيسيه: (1) القشرة، (2) الصفار و(3) الزلال أو البياض. عندما يطلب منك الحكم على شخصيه ما فإنك غالبا تحكم عليها من خلال القشرة الخارجية التي تراها من تلك الشخصية. هذه القشرة الخارجية من شخصية الإنسان تعرف بالسلوك الذي يتجسد في مجموعة من الأشياء مثل مظهره أو تصرفاته: سريع، بطيء، خجول، جريء، صوته عال أو منخفض، أو من خلال أخلاقياته مثل: الالتزام بالمواعيد، احترام الآخرين، هل هو من النوع الذي يستخدم عبارات لطيفة مثل القطن أو صادمة مثل المطارق؟
وبالطبع يعتبر هذا الحكم على شخصية الإنسان من خلال قشرته الخارجية جائرا نوعا ما تماما مثل الذي يحكم على سلامة البيضة من قشرتها الخارجية، لأن قشرة الإنسان جزء من شخصيته وليست كلها. كما أن هذه القشرة يسهل تلوينها (تخيل بيض عيد الفصح بألوانه الزاهية وهو يخفي بيضة فاسدة أو غير صالحة للأكل)، وبالتالي يمكن أن تعكس شيئا مختلفا عن شخصيه الإنسان الحقيقية. خذ مثلا السلوك المثالي الذي يتصنعه الشاب الذي يتقدم للزواج خلال فتره الخطبة والذي تكاد معه أن تنظر إلى ظهره لكي تتأكد أنه لا يحمل أجنحة الملائكة، لتنكشف بعد ثلاثة أشهر من الزواج خلف تلك الطيبة والمثالية قرون الشياطين المختبئة لدى هذا الشاب أو تلك الفتاة إلا من رحم ربي.
حسنا، إذا كان السلوك الخارجي لدينا يمثل القشرة الخارجية للبيضة، مم ينبع هذا السلوك يا ترى؟
في الحقيقة، كل ما نفعله كسلوكيات خارجية ينبع من قيمنا ومعتقداتنا الداخلية وهذا هو الجزء الذي يمثله صفار البيضة. في صفار البيضة الداخلية عند كل شخص ثمة منظومة قيمية مكونة من مجموعة من المعتقدات والأعراف والتقاليد والمسلمات التي تربى عليها هذا الشخص، ويشكل الدين معظم مكونات هذه المنظومة (في المجتمعات المتدينة خصوصا) بالإضافة إلى العرف والتقاليد وتأثير الإعلام والتربية والتعليم في خلطة شديدة التعقيد. والحقيقة أيضا أن هذه المنظومة القيمية لا تخضع لقاعدة الصح والخطأ، لأنها تنشأ من القيم الاجتماعية والمكون الثقافي الموروث في المجتمعات المختلفة وتتباين وتختلف بطريقة لافتة ليس بين الشعوب والمجتمعات فحسب، بل حتى بين الإخوة الذين تربوا في نفس الأسرة. خذ على ذلك مثالا في المجتمعات العربية ذات النزعة القبلية تحديدا، هناك مثل شائع في الزواج يقول 'البنت لابن عمها' في حين يعتبر المجتمع الغربي (خصوصا في أمريكا الشمالية) أن زواج الشاب من بنات عمومته أو عماته أو من بنات أخواله أو خالاته نوع من زنا المحارم - والعياذ بالله، دليلا على رفضهم التام لهذا النوع من الزواج من منطلق قيمي وأخلاقي. مثال آخر على هذا التباين في المنظومة القيمية يمكنك أن تراه بوضوح في الاختلاف الذي يحدث بين أخوين ينظر كل منهما بطريقة مختلفة لموضوع قياده المرأة للسيارة، فيشتري أحدهما لزوجته وبناته سيارات جديدة في حين يمنع الآخر زوجته وبناته من مجرد الحديث في الموضوع باعتباره خروجا سافرا على العرف والتقاليد. هذا بالرغم من أن كلا الأخوين تربيا في بيت واحد وفي أسرة واحدة ومع ذلك تلاحظ وجود قناعات مختلفة لدى كل منهما تشكلت من خلال عمليات معقدة ومتشابكة الأطراف في فترات زمنية طويلة. والمهم في الواقع أن نعرف بأن كل سلوكياتنا الخارجية كقشرة منبعها الأساسي من قيمنا الداخلية كصفار، فطريقة حديثنا ومشينا واختيارات ألوان وموديلات ملابسنا وسياراتنا وطريقة تأثيث منازلنا واختيار الأعمال والمهن والتخصصات كلها مرتبطة بالمنظومة القيمية كما هو حال كل شيء آخر يقع ضمن الثقافة السائدة والموروث أو يتعداه للاختيارات الفردية والتفضيلات الشخصية. لكن دعني أطرح عليك سؤالا مهما للغاية: هل تنعكس قيمنا الداخلية كسلوكيات خارجية فعلا طوال الوقت؟
لنأخذ مثلا أحد المدخنين: شاب يمسك سيجارة ويدخن. لو سألته: هل التدخين حرام أو مكروه؟ لأن هناك علماء يفتون بحرمة التدخين وآخرين يرون أن التدخين مكروه. سيرد عليك (وهو يأخذ نفسا طويلا من سيجارته): صحيح؟ هل هناك من يقول بأن التدخين مكروه؟ أنا أعرف بأن حكم التدخين حرام. ولو سألته: هل تعتقد أن التدخين مضر بالصحة؟ سيجيبك بنعم (وهو مستمر في التدخين). ولو سألته: هل توافق بأن التدخين نوع من الإسراف؟ سيقول لك: بالطبع، لقد أصبح سعر الباكيت الآن حوالي 25 ريالا. أما لو سألته: هل تصنف رائحة السجائر جيدة أو سيئة؟ سيقول لك (وهو ما زال يأخذ نفسا جديدا من سيجارته المشتعلة): أسوأ ما في السجائر رائحتها، كل مشاكلي مع زوجتي ومع أصدقائي هي في رائحة السجائر، فزوجتي لا تريدني أن أدخن في البيت وأصدقائي يرفضون أن أدخن في سياراتهم، وعندما أعمل على سيارتي في توصيل الركاب مع شركتي أوبر أو كريم يرفض الأشخاص الركوب معي بسبب رائحة السجائر الكريهة ويقيمونني بتقييم منخفض.
وأخيرا لو سألته: هل تتمنى أن يصبح ابنك مدخنا؟ سينظر إليك بغضب ويجيبك: أعوذ بالله من ذلك. ولعل مجرد التفكير في الموقف سيصيبك بالدهشة ويجعلك تتساءل: كيف يمكن لشخص لديه كل هذه القناعات السليمة (في عرف من يعتقد بأن التدخين عادة سيئة ومضرة) أن يدخن؟
في الواقع هناك جزء مهم جدا يمثل حلقة الوصل بين منظومة القيم لدينا مع منظومة السلوك ألا وهو الإدراك الذي يمثله بياض البيضة. تخيل أن لديك طفلا عمره سنتان، شاهدك وأنت تسكب القهوة للضيوف من دلة القهوة اللامعة الساخنة، فأراد أن يتعرف على هذا الشيء المثير للاهتمام. في كل مرة تقول له 'أح' (أح تعني ساخن في لغة الأطفال) لا يمكنه أن يتوقف في ظل سكرته بالفضول، حتى اللحظة التي يلمس فيها بإصبعه دلة القهوة الساخنة ليدرك بعمق أنها فعلا أح: ساااخنة. التحدي الأهم في جزئية الإدراك أنها منطقة تتراوح بين مستوى الإدراك التام (وهو الذي يشبه النهار المضيء بكل أشعه الشمس التي لا يمكن معها أن تغفل عن أي تفصيل أو جزئية)، وهناك إدراك ضحل (يشبه الظلام الدامس الذي لا يمكنك فيه أن ترى حتى ما بين يديك) وما بين الإدراك التام والإدراك الضحل هناك مساحة كبيرة من اللون الرمادي المتدرج. بمجرد أن يصبح إدراك الإنسان عميقا لخطورة الشيء (الذي تربى عليه كمعلومة أو تقليد أو عرف) سيتوقف عن فعله مباشره وعندما يدرك بعمق ووضوح أهمية الشيء (الذي تربى عليه كمعلومة أو تقليد أو عرف) سيفعله مباشرة تماما مثلما تتغير وضعية المفتاح الكهربائي من الإيقاف OFF إلى التشغيل ON أو العكس. لذلك تعجبني مقولة 'يقود التفكير السلوك كما يقود الحصان العربة' لأن التفكير - في وجهة نظري - هو أهم جوانب تعزيز الإدراك ونقله من مرحلته الغارقة في الضحالة إلى قمة الوضوح والفهم.
معنى هذا أنك تستطيع تغيير أي سلوك من خلال تعزيز الإدراك لخطورة هذا الشيء لنتركه أو تعزيز الإدراك لأهمية هذا الشيء لكي نفعله. ولأن التدريب يهدف إما لإكساب المهارات أو تغيير السلوكيات فإنه يركز على جانب تعزيز الإدراك. وينجح بشكل كبير في تحقيق أهداف التدريب من يستطيع العزف بمهارة على أوتار الإدراك العميق من أجل تغيير سلوكيات المتدربين أو إكسابهم المهارات التي تعتبر بدورها نوعا من السلوكيات الجديدة المكتسبة.
حسنا، هل تتذكر الشاب المدخن؟ تعال معي الآن لنأخذه كمثال، مفترضين أن أحد الأطباء أراد أن يقوم بتمثيلية تعزيز الإدراك العميق (بغض النظر عن كونها غير أخلاقية) عندما جاءه هذا الشاب المدخن ليجري كشفا عاما:
دخل صديقنا الشاب المدخن عند الطبيب في العيادة لغرض إجراء فحوصات طبية تقليدية Check up وعندما شم الطبيب رائحة السجائر في الشاب سأله إذا ما كان يدخن فأجاب الشاب بنعم. عندها طلب الطبيب من الشاب أن يقوم بعمل أشعة سينية X-Ray للصدر أيضا مع مجموعة أخرى من التحاليل والاختبارات. عندما عاد الشاب بعد أسبوع إلى عيادة الطبيب استبدل الطبيب بدون علم المريض أشعة صدر الشاب (السليمة لحد الآن) بأشعة صدر مريض سابق لدى الطبيب كان يعاني من تليف الرئتين بسبب التدخين.
عندما دخل الشاب للطبيب طلب منه الطبيب الجلوس وأخبره بأنه يحمل له خبرا مهما عن صحته. جلس الشاب وقد تملكه القلق متسائلا، ووضع الطبيب بدون أي مقدمات أمامه صورة أشعة صدر المريض متليف الرئتين. قال الطبيب مخاطبا الشاب: شوف يا إبني هذه أشعة صدرك، بسبب التدخين ستلاحظ أن الفص الأيمين يظهر باللون الأسود، مما يعني أن هذا الجزء من رئتك متليف تماما ويحتاج للاستئصال عاجلا، أما لو نظرت للون الفاتح في الفص الأيسر من رئتك فهذا يعني أن هذا الجزء من رئتك يعمل بنسبة حوالي 20 إلى 30% . وتابع الطبيب كلامه: أريد منك الآن أن تذهب لمدة أسبوع أو عشرة أيام لتسدد ديونك وتكتب وصيتك وتودع أهلك، ثم تعود إلينا بعدها لكي نقوم بعملية استئصال الفص الأيمن من رئتك، هل ترغب في طرح أي سؤال أو استفسار؟ أعرف بأن لدينا في مختلف المجتمعات أشخاصا يسمونهم 'الحادين' أو 'الخارجين عن حدود المألوف' والسجون ملأى بأشخاص من هؤلاء لم يمنعهم القانون حتى من ارتكاب الجرائم، لكن - وبفضل الله سبحانه وتعالى - يمثل هؤلاء الأشخاص شريحة بسيطة جدا من المجتمع، في حين أن معظم أفراد المجتمع الآخرين من الأشخاص العاديين. تخيل معي لو كان الشاب هذا من الأشخاص العاديين، كيف سيصبح سلوكه الآن بعد أن تعرض لهذه الهزة القوية؟
هل تعرف ماذا فعل الطبيب؟ لقد أخذ إصبع صديقنا المدخن وحرقه في دلة القهوة!
إن الفائدة العظيمة من هذه النظرية يمكن تلخيصها بأن تغير سلوك شخص مرتبط بالتأثير العميق على إدراكه.
يذكر أن أي محاوله لتغيير إدراك شخص ما بدون أن يكون لهذا السلوك قاعدة في منظومة القيم عنده، يعتبر ضربا من ضياع الوقت والجهد. أخيرا تذكر بأن التأثير على الإدراك منحة عظيمة جدا من منح المولى سبحانه وتعالى، وإذا كنت ممن حباهم المولى عز وجل بهذه القدرة في التأثير على الناس من خلال إدراك عميق فقد منّ عليك بمنة عظيمه ينبغي لك أن توظفها بطريقة متقنة وفعالة. أما إذا لم تكن لديك هذه الملكة، فأريد أن أذكرك بأن الوصول لهذا التأثير يتطلب علاقات صحية إيجابية ونوعية مع الأشخاص الذين تعمل من أجل تغييرهم، ولذلك فأنت تحتاج إلى أن تكون صبورا، مرحا، لينا، مرنا، عادلا، كما تحتاج إلى تكون أن صادقا في محبتك للإنسان وإيمانك بالقضايا التي تحارب من أجلها لتنجح في تحقيق التغيير المنشود. وصدقني، سيكون في إمكانك عندما تتقن هذه المهارة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، القدرة على إحداث تغييرات خارقة في سلوكك الشخصي وسلوكيات الأشخاص من حولك أسرع من الضوء الذي يختفي أو يظهر عندما تحرك المفتاح الكهربائي في غرفة جلوسك.
oalandejani@
وبالطبع يعتبر هذا الحكم على شخصية الإنسان من خلال قشرته الخارجية جائرا نوعا ما تماما مثل الذي يحكم على سلامة البيضة من قشرتها الخارجية، لأن قشرة الإنسان جزء من شخصيته وليست كلها. كما أن هذه القشرة يسهل تلوينها (تخيل بيض عيد الفصح بألوانه الزاهية وهو يخفي بيضة فاسدة أو غير صالحة للأكل)، وبالتالي يمكن أن تعكس شيئا مختلفا عن شخصيه الإنسان الحقيقية. خذ مثلا السلوك المثالي الذي يتصنعه الشاب الذي يتقدم للزواج خلال فتره الخطبة والذي تكاد معه أن تنظر إلى ظهره لكي تتأكد أنه لا يحمل أجنحة الملائكة، لتنكشف بعد ثلاثة أشهر من الزواج خلف تلك الطيبة والمثالية قرون الشياطين المختبئة لدى هذا الشاب أو تلك الفتاة إلا من رحم ربي.
حسنا، إذا كان السلوك الخارجي لدينا يمثل القشرة الخارجية للبيضة، مم ينبع هذا السلوك يا ترى؟
في الحقيقة، كل ما نفعله كسلوكيات خارجية ينبع من قيمنا ومعتقداتنا الداخلية وهذا هو الجزء الذي يمثله صفار البيضة. في صفار البيضة الداخلية عند كل شخص ثمة منظومة قيمية مكونة من مجموعة من المعتقدات والأعراف والتقاليد والمسلمات التي تربى عليها هذا الشخص، ويشكل الدين معظم مكونات هذه المنظومة (في المجتمعات المتدينة خصوصا) بالإضافة إلى العرف والتقاليد وتأثير الإعلام والتربية والتعليم في خلطة شديدة التعقيد. والحقيقة أيضا أن هذه المنظومة القيمية لا تخضع لقاعدة الصح والخطأ، لأنها تنشأ من القيم الاجتماعية والمكون الثقافي الموروث في المجتمعات المختلفة وتتباين وتختلف بطريقة لافتة ليس بين الشعوب والمجتمعات فحسب، بل حتى بين الإخوة الذين تربوا في نفس الأسرة. خذ على ذلك مثالا في المجتمعات العربية ذات النزعة القبلية تحديدا، هناك مثل شائع في الزواج يقول 'البنت لابن عمها' في حين يعتبر المجتمع الغربي (خصوصا في أمريكا الشمالية) أن زواج الشاب من بنات عمومته أو عماته أو من بنات أخواله أو خالاته نوع من زنا المحارم - والعياذ بالله، دليلا على رفضهم التام لهذا النوع من الزواج من منطلق قيمي وأخلاقي. مثال آخر على هذا التباين في المنظومة القيمية يمكنك أن تراه بوضوح في الاختلاف الذي يحدث بين أخوين ينظر كل منهما بطريقة مختلفة لموضوع قياده المرأة للسيارة، فيشتري أحدهما لزوجته وبناته سيارات جديدة في حين يمنع الآخر زوجته وبناته من مجرد الحديث في الموضوع باعتباره خروجا سافرا على العرف والتقاليد. هذا بالرغم من أن كلا الأخوين تربيا في بيت واحد وفي أسرة واحدة ومع ذلك تلاحظ وجود قناعات مختلفة لدى كل منهما تشكلت من خلال عمليات معقدة ومتشابكة الأطراف في فترات زمنية طويلة. والمهم في الواقع أن نعرف بأن كل سلوكياتنا الخارجية كقشرة منبعها الأساسي من قيمنا الداخلية كصفار، فطريقة حديثنا ومشينا واختيارات ألوان وموديلات ملابسنا وسياراتنا وطريقة تأثيث منازلنا واختيار الأعمال والمهن والتخصصات كلها مرتبطة بالمنظومة القيمية كما هو حال كل شيء آخر يقع ضمن الثقافة السائدة والموروث أو يتعداه للاختيارات الفردية والتفضيلات الشخصية. لكن دعني أطرح عليك سؤالا مهما للغاية: هل تنعكس قيمنا الداخلية كسلوكيات خارجية فعلا طوال الوقت؟
لنأخذ مثلا أحد المدخنين: شاب يمسك سيجارة ويدخن. لو سألته: هل التدخين حرام أو مكروه؟ لأن هناك علماء يفتون بحرمة التدخين وآخرين يرون أن التدخين مكروه. سيرد عليك (وهو يأخذ نفسا طويلا من سيجارته): صحيح؟ هل هناك من يقول بأن التدخين مكروه؟ أنا أعرف بأن حكم التدخين حرام. ولو سألته: هل تعتقد أن التدخين مضر بالصحة؟ سيجيبك بنعم (وهو مستمر في التدخين). ولو سألته: هل توافق بأن التدخين نوع من الإسراف؟ سيقول لك: بالطبع، لقد أصبح سعر الباكيت الآن حوالي 25 ريالا. أما لو سألته: هل تصنف رائحة السجائر جيدة أو سيئة؟ سيقول لك (وهو ما زال يأخذ نفسا جديدا من سيجارته المشتعلة): أسوأ ما في السجائر رائحتها، كل مشاكلي مع زوجتي ومع أصدقائي هي في رائحة السجائر، فزوجتي لا تريدني أن أدخن في البيت وأصدقائي يرفضون أن أدخن في سياراتهم، وعندما أعمل على سيارتي في توصيل الركاب مع شركتي أوبر أو كريم يرفض الأشخاص الركوب معي بسبب رائحة السجائر الكريهة ويقيمونني بتقييم منخفض.
وأخيرا لو سألته: هل تتمنى أن يصبح ابنك مدخنا؟ سينظر إليك بغضب ويجيبك: أعوذ بالله من ذلك. ولعل مجرد التفكير في الموقف سيصيبك بالدهشة ويجعلك تتساءل: كيف يمكن لشخص لديه كل هذه القناعات السليمة (في عرف من يعتقد بأن التدخين عادة سيئة ومضرة) أن يدخن؟
في الواقع هناك جزء مهم جدا يمثل حلقة الوصل بين منظومة القيم لدينا مع منظومة السلوك ألا وهو الإدراك الذي يمثله بياض البيضة. تخيل أن لديك طفلا عمره سنتان، شاهدك وأنت تسكب القهوة للضيوف من دلة القهوة اللامعة الساخنة، فأراد أن يتعرف على هذا الشيء المثير للاهتمام. في كل مرة تقول له 'أح' (أح تعني ساخن في لغة الأطفال) لا يمكنه أن يتوقف في ظل سكرته بالفضول، حتى اللحظة التي يلمس فيها بإصبعه دلة القهوة الساخنة ليدرك بعمق أنها فعلا أح: ساااخنة. التحدي الأهم في جزئية الإدراك أنها منطقة تتراوح بين مستوى الإدراك التام (وهو الذي يشبه النهار المضيء بكل أشعه الشمس التي لا يمكن معها أن تغفل عن أي تفصيل أو جزئية)، وهناك إدراك ضحل (يشبه الظلام الدامس الذي لا يمكنك فيه أن ترى حتى ما بين يديك) وما بين الإدراك التام والإدراك الضحل هناك مساحة كبيرة من اللون الرمادي المتدرج. بمجرد أن يصبح إدراك الإنسان عميقا لخطورة الشيء (الذي تربى عليه كمعلومة أو تقليد أو عرف) سيتوقف عن فعله مباشره وعندما يدرك بعمق ووضوح أهمية الشيء (الذي تربى عليه كمعلومة أو تقليد أو عرف) سيفعله مباشرة تماما مثلما تتغير وضعية المفتاح الكهربائي من الإيقاف OFF إلى التشغيل ON أو العكس. لذلك تعجبني مقولة 'يقود التفكير السلوك كما يقود الحصان العربة' لأن التفكير - في وجهة نظري - هو أهم جوانب تعزيز الإدراك ونقله من مرحلته الغارقة في الضحالة إلى قمة الوضوح والفهم.
معنى هذا أنك تستطيع تغيير أي سلوك من خلال تعزيز الإدراك لخطورة هذا الشيء لنتركه أو تعزيز الإدراك لأهمية هذا الشيء لكي نفعله. ولأن التدريب يهدف إما لإكساب المهارات أو تغيير السلوكيات فإنه يركز على جانب تعزيز الإدراك. وينجح بشكل كبير في تحقيق أهداف التدريب من يستطيع العزف بمهارة على أوتار الإدراك العميق من أجل تغيير سلوكيات المتدربين أو إكسابهم المهارات التي تعتبر بدورها نوعا من السلوكيات الجديدة المكتسبة.
حسنا، هل تتذكر الشاب المدخن؟ تعال معي الآن لنأخذه كمثال، مفترضين أن أحد الأطباء أراد أن يقوم بتمثيلية تعزيز الإدراك العميق (بغض النظر عن كونها غير أخلاقية) عندما جاءه هذا الشاب المدخن ليجري كشفا عاما:
دخل صديقنا الشاب المدخن عند الطبيب في العيادة لغرض إجراء فحوصات طبية تقليدية Check up وعندما شم الطبيب رائحة السجائر في الشاب سأله إذا ما كان يدخن فأجاب الشاب بنعم. عندها طلب الطبيب من الشاب أن يقوم بعمل أشعة سينية X-Ray للصدر أيضا مع مجموعة أخرى من التحاليل والاختبارات. عندما عاد الشاب بعد أسبوع إلى عيادة الطبيب استبدل الطبيب بدون علم المريض أشعة صدر الشاب (السليمة لحد الآن) بأشعة صدر مريض سابق لدى الطبيب كان يعاني من تليف الرئتين بسبب التدخين.
عندما دخل الشاب للطبيب طلب منه الطبيب الجلوس وأخبره بأنه يحمل له خبرا مهما عن صحته. جلس الشاب وقد تملكه القلق متسائلا، ووضع الطبيب بدون أي مقدمات أمامه صورة أشعة صدر المريض متليف الرئتين. قال الطبيب مخاطبا الشاب: شوف يا إبني هذه أشعة صدرك، بسبب التدخين ستلاحظ أن الفص الأيمين يظهر باللون الأسود، مما يعني أن هذا الجزء من رئتك متليف تماما ويحتاج للاستئصال عاجلا، أما لو نظرت للون الفاتح في الفص الأيسر من رئتك فهذا يعني أن هذا الجزء من رئتك يعمل بنسبة حوالي 20 إلى 30% . وتابع الطبيب كلامه: أريد منك الآن أن تذهب لمدة أسبوع أو عشرة أيام لتسدد ديونك وتكتب وصيتك وتودع أهلك، ثم تعود إلينا بعدها لكي نقوم بعملية استئصال الفص الأيمن من رئتك، هل ترغب في طرح أي سؤال أو استفسار؟ أعرف بأن لدينا في مختلف المجتمعات أشخاصا يسمونهم 'الحادين' أو 'الخارجين عن حدود المألوف' والسجون ملأى بأشخاص من هؤلاء لم يمنعهم القانون حتى من ارتكاب الجرائم، لكن - وبفضل الله سبحانه وتعالى - يمثل هؤلاء الأشخاص شريحة بسيطة جدا من المجتمع، في حين أن معظم أفراد المجتمع الآخرين من الأشخاص العاديين. تخيل معي لو كان الشاب هذا من الأشخاص العاديين، كيف سيصبح سلوكه الآن بعد أن تعرض لهذه الهزة القوية؟
هل تعرف ماذا فعل الطبيب؟ لقد أخذ إصبع صديقنا المدخن وحرقه في دلة القهوة!
إن الفائدة العظيمة من هذه النظرية يمكن تلخيصها بأن تغير سلوك شخص مرتبط بالتأثير العميق على إدراكه.
يذكر أن أي محاوله لتغيير إدراك شخص ما بدون أن يكون لهذا السلوك قاعدة في منظومة القيم عنده، يعتبر ضربا من ضياع الوقت والجهد. أخيرا تذكر بأن التأثير على الإدراك منحة عظيمة جدا من منح المولى سبحانه وتعالى، وإذا كنت ممن حباهم المولى عز وجل بهذه القدرة في التأثير على الناس من خلال إدراك عميق فقد منّ عليك بمنة عظيمه ينبغي لك أن توظفها بطريقة متقنة وفعالة. أما إذا لم تكن لديك هذه الملكة، فأريد أن أذكرك بأن الوصول لهذا التأثير يتطلب علاقات صحية إيجابية ونوعية مع الأشخاص الذين تعمل من أجل تغييرهم، ولذلك فأنت تحتاج إلى أن تكون صبورا، مرحا، لينا، مرنا، عادلا، كما تحتاج إلى تكون أن صادقا في محبتك للإنسان وإيمانك بالقضايا التي تحارب من أجلها لتنجح في تحقيق التغيير المنشود. وصدقني، سيكون في إمكانك عندما تتقن هذه المهارة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، القدرة على إحداث تغييرات خارقة في سلوكك الشخصي وسلوكيات الأشخاص من حولك أسرع من الضوء الذي يختفي أو يظهر عندما تحرك المفتاح الكهربائي في غرفة جلوسك.
oalandejani@