تفاعل

المقعد الأخير

صالح بوقري
اتسعت حدقتا بائع تذاكر المسرح ورفع حاجبيه مستغربا عندما فاجأه الغريب بسؤاله «ما اسمك»؟

وقد ألح عليه بالمحاولة في إيجاد مقعد له في حفل الليلة مع علمه أنه قد تم بيع مقاعدها بالكامل منذ أيام في المسرح الذي يسع خمسة آلاف شخص.

أجاب: اسمي ماتيوس.

رد عليه: كنت أدرك أن البركة قد امتدت إليك فأنت من سلالة مباركة.

الأمر الذي زاد من ارتباك ماتيوس وهو يحاول جاهدا الضرب على مفتاح لحاسب، إرضاء للغريب المتحمس لحضور الحفل إلى درجة إضفاء التوتر في المكان.

والأمر بالنسبة لماتيوس لا يزيد على كونه مضيعة للوقت، ولكنه بادر بسؤال الغريب: وكيف أكون من سلالة مباركة؟

ـ ألم تقل أنك ماتيوس؟

ـ نعم هذا اسمي!

ألم تكن من الحواريين جلوسا في العشاء الأخير؟

زاد ارتباك ماتيوس ولا زال يحاول عندما فاجأه الغريب بسؤال أكثر غرابة.

ماذا تناولتم على العشاء؟ أدرك عندها ماتيوس أن الغريب بلغ في خياله ما لم يتوقع، ولكن أعجبه السؤال، أجاب والابتسامة تشع على محياه وأراد أن يشارك الغريب دعابته: لست أذكر فلقد مر أكثر من ألفي عام على المناسبة.

يجد الغريب الخطو متعجلا تارة متمهلا أخرى.

يتوقف كلما صادف أحدا من المارة يسأله عن وجهته، واطمأن عندما أدرك أن الكل يرشده أن يواصل سيره ثم الانعطاف يمينا بعد نهاية الطريق الذي شعر أنه أطول بكثير مما وصفه عامل الفندق.

كان يمشي نحو مجهول بإحساس المتفائل يدفعه يقينه أنه سيحظى بمقعد في عرض الليلة.

وعلى الرغم من الردود التلقائية التي وجدها في موقع المسرح على الانترنت، إلا أنه غالبا ما يجد أن الواقع يختلف عن بطن هذا الكمبيوتر، خاصة اليوم.

كان يمشي ويتمتم بتعويذته متدثرا بمعطفه من برد الشتاء وهواء الصباح الذي لم يتعود عليه.

يتخيل نفسه جالسا في السابعة مع الحضور وقد أكمل بحضوره خمسة آلاف متفرج على «كسارة البندق» لأحد عمالقة الموسيقى الروس، والتي يتوق أن يشاهدها ثانية أو ربما للمرة الثالثة بأداء فريق الباليه المختلف هنا.

كان يندفع بمشاعر متباينة أولاها سخريته من هذا الجهاز الذي يدعي أن لا مقعد بين خمسة آلاف مقعد، ثم إحساسه بأنه يجلس مساء متجسدا نفسه ينظر إلى بقية الحضور معه متباهيا بنفسه بأنه تساوى مع من سبقه بحجز المقاعد منذ أشهر لهذه المناسبة الخاصة جدا في هذه

العاصمة التي وصلها الآلاف من كل فج بمناسبة احتفالات نهاية العام، ومنها الاستعراضات الموسيقية التي تتباهى بها royal albert hall، حيث تعرض الليلة للموسيقي تشايكوفسكي، وهو واحد من أهم المؤلفين الروس في النصف الثاني من القرن الـ 19.

تشايكوفسكي موسيقار عملاق جمع في أعماله لحنية هائلة مليئة بالحزن الشديد والفرح النبيل، من أشهر أعماله (كسارة البندق)، ذلك دون المساس بقوة وجزالة الكتابة الموسيقية، ففي سيمفونياته الست تظهر الحرفية الأوركسترالية الكبيرة.

وأعماله للبيانو تظهر الفكرة اللحنية الدفاقة وحبكة القالب المتقنة، خاصة في عمله الخالد (أشهر السنة). أما أعماله (الجميلة النائمة، بحيرة البجع، كسارة البندق)، فهي الأكثر شهرة ورواجا في عالم رقص الباليه، خاصة الأخيرة التي تعرض الليلة.