الرأي

التفكير والفلسفة

لم يكن واردا أن أكتب هذا المقال عن الفلسفة أو التفكير، هذا المجال له من هم أهل له، فقد فكرت في موضوع آخر، غير أنني عدلت عنه بعد أن جمعني نقاش جميل في تويتر عن الفلسفة، ونذكر القارئ الجميل بأن منظمة «اليونيسكو» جعلت الثالث من نوفمبر كل عام يوما عالميا للفلسفة، كما حثت أعضاءها على الاحتفال به علميا، والعمل على إشراك مؤسساتها التعليمية، وذلك بسبب توضيح أهمية الفلسفة، ورسالتها المعرفية في إعلاء مكانة العقل، والتساؤل وملكة التفكير والتحليل والنقد. ومن اللافت للانتباه أن اليونيسكو اختارت اليوم الدولي للتسامح عقب اليوم العالمي للفلسفة، في الـ 16 من الشهر نفسه كل سنة. والواقع أن ثمة علاقة أصيلة بين الفلسفة والتسامح، إذا اعتبرنا الأولى رديفة للحكمة، والثاني تعبيرا عن القدرة على قبول الآخر والتحمل والتعايش معه.

من الضروري الانتصار للفلسفة وتساؤلها وأسئلتها، وهناك أكثر من حاجة إلى جعل الفلسفة واسطة لعقد المعرفة ومناطها، ليس لأنها تحرض على التفكير خارج الصندوق أو الانتقاد، وتدفع بها إلى الانتفاض فحسب، بل لأنها ترجح العقل، وتنتصر لسلطانه، ولا تأخذ بجمود النص وتمارس التفكير والنقد وتنزع عنه أحجبة الغموض واللا منطق والوعي. لذلك توجد علاقة تلازمية بين الفلسفة والتفكير النقدي والوعي.

وحيث إن التفكير النقدي مبدؤه التحليل الموضوعي للحقائق لإعطاء حكم ما فيها، هنالك العديد من التعريفات تتفق جميعها في أنه تحليل غير متحيزعقلاني شكاك، أو هو تقييم الأدلة والحقائق «الكفاية العقلية» أي الفهم والتحليل والشك، ويستقيم في خط متواز مع مبدأ الحرية الفكرية، بل إن الحرية هي ضامنة التفكير النقدي، التساؤل من ثم البحث والنقد الذي يودي لنقد الموروث والمتعارف عليه والمناقشة النقدية، والجدال بالمنطق، وتقديم الحجج في نسق منظم.

إن قيام التفكير النقدي مشروط بالاعتراف بالفلسفة معرفة وممارسة، وكل سعي إلى إضعافها أو التقليل من شأنها، أو محاربتها، يفضي حتما إلى ضمور التفكير النقدي، فهما مكملان لبعضهما، وهو ما يعني تراجع مكانة العقل، وشيوع السلوكيات اللا عقلانية المدمرة لفرص ميلاد قيم الحرية الفكرية والحوار والتسامح والاختلاف، والأخطر من هذا استحالة فهم الذات والآخر فهما سليما وإيجابيا.

لننتقل من التجريد، وهي سمة من سمات الفلسفة، إلى الواقع، ونتأمل ما آلت إليه أوضاع فكرنا العربي حين تمت محاربة الفلسفة من مجالنا المجتمعي، واستبدلت بتفكير جامد يمجد النصوص، وتم إنهاء المعرفة الفلسفية في مناهجنا التعليمية، ووقع تأليب قطاعات من المجتمع للإضرار بالفلسفة وبالمشتغلين فيها (زمن الصحوة)، ولنفحص نتائج هذه الهجمة المنظمة على الفلسفة، والتي كانت حقا إضعافا للعقل عن التفكير النقدي، وتوقيفا لقدراته على النظر بعقلانية إلى الواقع والتساؤل عن اختلالاته.

ألم تبتعد الجامعات العربية عن وظائفها الأصيلة، وهي إشاعة قيم التنوير والحوار والتسامح؟ ألم تتحول الجامعة من مجال للتحصيل العلمي والتنوير المعرفي والحوار المختلف، ومن مشتل لاستنبات النخب القائدة الصالحة، إلى منابر للإقصاء والإقصاء المضاد؟ وحتى عندما أصبحت الفلسفة مطلبا تنويريا للتعاطي مع حال المجتمع، ودعمتها بعض الدول العربية ودعت إلى إعادة الاهتمام بها في مؤسسات التعليم والأقسام العلمية في الجامعة، لم تجد دعوتها التجاوب المطلوب، بسبب الآثار الضارة الناجمة عن الإجهاز على الفلسفة والمشتغلين بها، وكان قد مر من الزمن ما يكفي لتبخيس التفكير الفلسفي وتقديمه كمعرفة غير ذات قيمة.

إن العلاقة الطردية بين الفلسفة والتفكير النقدي هي ما يجعل الحاجة إلى الفلسفة أكثر من ضرورية، ولا سيما في ظل النكوص والتراجع العميقين اللذين أصابا مجتمعنا العربي، لأن بالفلسفة وكفاياتها نستطيع التصالح مع موروثنا التاريخي والمورث، وبها أيضا نستطيع التعايش مع الحاضر وبناء المستقبل، لكن بدون إعادة الاعتبار للفلسفة سيتعمق جهلنا أكثر، وتتسع دائرة التراجع والنكوص في تفكيرنا، وتاليا ستتفاقم نزعات الإقصاء والتوتر.

mr_alshammeri@