الرأي

أوان بلاستيكية لمكافحة العنف المنزلي!

محمد أحمد بابا
نسمع عما تتعرض له الخادمات في المنازل من شتم وتعنيف من ربات البيوت أو أرباب الأسر، نتيجة التقصير في العمل أو تعرض المقتنيات للتلف والأعطال، وقد يشترك كل أفراد الأسرة في هذا السلوك متفاوتين في لَكْمِ الدمية.

ومن الأسر من تضرب وتحبس وتعنف الأطفال عند أي خطأ يخص الأواني المنزلية والتحف الباهظة الثمن الموضوعة في مدخل البيت أو في غرفة الاستقبال، لأن في كسرها كسرا لقلب صاحبة المنزل التي لا تشعر بانتماء سوى لمجموعة «كريستالات» أو مصفوفة «صينيات» تزين خزانة الأواني أمام طاولة الطعام، وتتألم تلك الآمرة الناهية عند أي خدش يحدث لثروتها الزجاجية.

يعيش الأطفال والخدم المتعرضون لهذا النوع غير العادي من العنف مأساة نفسية غير مصطنعة أو مفتعلة منهم، وغير مزيفة أو مكبرة منا، حيث التفت إليها آباؤنا وأجدادنا من الأوائل الذين سبقوا العالم الغربي في التنظيمات المدنية وإدارة مؤسسات المجتمع التي تهتم بالصغار والخدم.

ففي القرن الـ 14 الميلادي القرن الثامن الهجري، قال الرحالة ابن بطوطة في مذكراته عن رحلاته وزيارته للمشرق العربي «بينما أنا أسير في شوارع وأزقة دمشق المرصوفة إذا بمملوك صغير سقط منه إناء فخار وكسر وأخذ يبكي فاجتمع عليه من في السوق وأمروه بأن يجمع قطع الإناء ويذهب لناظر وقف الأواني ليعطيه ثمن إناء جديد يعود به لأهله، وقد علم هؤلاء بأنه لو عاد بغير إناء أو به مكسورا سيعاقب على ذلك».

هذه السطور وظرفها عميقة في بيان تأثير الأوقاف والعمل التطوعي على الناس منذ ذلك الحين، الأمر الذي يجعل القلب يطمئن بأن الانتقال من مرحلة النصح والإرشاد والتوعية إلى مراحل متقدمة من الإجراءات العملية الكفيلة بمنع هذا العنف عن الضعفاء وتضميد جراح أخطائهم تجاه أعمالهم درءا للعقوبة أمر في غاية النبل والكرامة الإنسانية والتعاون الجميل بين أفراد المجتمع المسلم بالذات، وكم كان هذا العمل وتلك السياسة ثقافة تجانس في حواضر المدن في العهود الإسلامية المزدهرة حضارة وثقافة وعلما.

ما أحوجنا اليوم لأن نقرن بين الحملات الداعية للتوعية ضد العنف المنزلي بالبحث عن أسبابه لدى المستهدفين من هذا العذاب الإنساني الشاذ، لنتعرف عن قرب على حوائجهم ومتطلباتهم ونوفر لهم بطريقة تناسب التطور الحالي ما يدفع عنهم الشعور والتعرض لردة فعل غير محسوبة أو مقدور عليها من «أسياد وسيدات» منازلهم.

لا يستطيع المجتمع أو الدولة أو الناشطون في هذا المضمار القضاء على هذه الظاهرة في يوم وليلة، ولا سنة واثنتين بملصقات وبرامج ودورات ونصائح وخطب، ولا يستطيعون أيضا إحكام القبضة على المتجاوزين في ولايتهم للقصر والخدم والأبناء بعقوبات قد تطال البعض ويهرب منها الأغلب، لكن الجهد المبذول في المناشط التوعوية والإجراءات التنفيذية يكون محل تأثير بالغ لو صاحبه عمل وبرنامج يشبه ما تركه لنا ابن بطوطة من كنوز في كتابته عن رحلاته الشرقية والغربية.

أظن أن صرف الأموال والتبرعات وريع الأوقاف في رعاية المشاعر الإنسانية عمل عظيم يقع في صميم الرسالة السماوية، وقد يكون من الحكمة في إعطاء زكاة المال للغريب «ابن السبيل» مسألة نفسية تزيد عن كونه محتاجا، فللغربة وحشة وللشعور بالوحدة آلام، وتأليف القلوب بالمال والإحسان قاعدة عريضة في التاريخ الدعوي، ورعاية الأيتام ليست من ذلك ببعيد.

واعتقادي كذلك بأن المحافظة على نفسية الخدم والأطفال في قالبها الطبيعي المنطقي لها نتيجة كبيرة في تحقيق ما نريده منهم خدمة أو امتثالا وصلاحا، إذ كيف يتقن ويبدع من يفتقد أدنى مقومات الأمان النفسي، ويعيش خوفا وتجريحا وتوترا جراء هذه الاعتداءات؟ لأجزم بعد كل هذا بأن الخطوة الأولى للقضاء على العنف المنزلي هي: توفير «فازة» جديدة بدل المكسورة، ثم بعد ذلك توعية الأم بكيفية معالجة الأخطاء، وهذا منحى مثال وعلى صاحب الفهم أن يفهم.

أما لو تخيلنا اقتراحا يقول بالتسويق لاستخدام أوان بلاستيكية غير قابلة للكسر هروبا من وقوع أي مشكلات، فهو إبعاد لأصل المشكلة عن الحل، ويبقى القوي جاهزا لأي اعتداء متى رغب، ويبقى الضعيف غير قادر على التعامل مع الأشياء الثمينة، ولم تتح له الفرصة لاكتساب مهارات المحافظة على الممتلكات، وهذا هو الجمود القائد للرجعية، ولعل ما أعنيه وصل ولو من بعيد.

albabamohamad@