ردي الرسائل لو سمحتِ!
سنابل موقوتة
الثلاثاء / 30 / جمادى الأولى / 1440 هـ - 20:15 - الثلاثاء 5 فبراير 2019 20:15
قبل أن يخترع العالم الانترنت كنت أكتب لأي أحد وعلى أي شيء، علب المناديل، الأكياس الورقية، الجدران، على الكتب الدراسية والدفاتر وطاولات الدراسة وأسوار المدرسة. أكتب لأصدقائي وأعدائي وحبيبتي التي نسيت شكلها، وتلك التي لا أعرفها والأخرى التي أتخيلها.
لا زلت أحتفظ برسائل كنت أتبادلها مع زملائي أثناء حصص الدراسة في المرحلة الثانوية والجامعية، سخرية من الأستاذ أو من زميل أو من أنفسنا. قصاصات الورق التي ننتزعها من دفاترنا المدرسية هي وسائل التواصل الاجتماعي التي نستخدمها في التعبير عن انفعالاتنا أو نتفق فيها على مشاريعنا بعد نهاية اليوم الدراسي.
نسخر من زميل وقع في الحب، أو صديق يظن أنه يحب، أو نرسم خطة لمباراة كرة القدم التي سنلعبها عصر ذلك اليوم، ومن الأسماء المتاحة التي يمكن أن نستدعيها لتشكيلة فريقنا الذي كان يضحك أكثر مما يسجل الأهداف.
كتبت الكثير من الرسائل بعضها وصل وبعضها ضل الطريق وكثير منها احتفظت به إما لأن الشخص الذي وجهت له الرسالة غير موجود من الأساس أو لأني لم أعثر على عنوانه حتى اليوم.
حين زادت المسافة بيني وبين أصدقاء الرسائل ولم يعد ممكنا تمرير رسائلنا بين الطاولات دون مظاريف بدأت مرحلة جديدة من كتابة الرسائل، حيث لا بد من مظاريف وطوابع وبريد، وانتظار.
أعود أحياناً لتصفح تلك الرسائل العتيقة، أبتسم أحياناً وأصاب بالرعب في أحيان أخرى، كانت تلك الرسائل الورقية صادقة بشكل مريع.
ولحسن حظي أني لم أكن أعرف غادة السمان، ولم أكتب لها يوماً، ولذلك أبدو في مأمن من نشر رسائلي الغرامية. ربما يحتفظ بها أحدهم وينتظر رحيلي لكي ينشرها ولكن الأمر لن يكون مهماً حينها.
حين أحدث أبنائي عن هذه المرحلة يبدو وكأني أحدثهم عن قصص خيال علمي، ويجدون صعوبة في تخيل أن هذه يمكن أن تكون وسيلة للتواصل بين الكائنات البشرية. حين يقول محمد عبده «لا تردين الرسائل» تبدو لهم جملة غير مفهومه ولا معنى لها.
الرسائل الورقية ورائحة الورق أجمل وأكثر صدقاً، لا أحد يعيد تحويل رسالة ورقية، لا بد أن يبذل فيها جهداً أقله أن ينسخها بخط يده.
لكنها بالطبع ليست أكثر عملية من الرسائل الحديثة، لا أحد يريد أن يسأل سؤالاً ويعرف إجابته بعد ثلاثة أسابيع.
المشكلة التي أتخيلها هي كيف سيعرف علماء الآثار بعد ألف سنة من الآن كيف كان يعيش أبناء هذا العصر، وما الذي سيضعون في متاحفهم عن حضارتنا، النقوش الأثرية والعبارات التي تملأ المتاحف هي رسائل أبناء العصور السابقة ومنها عرفنا كيف يفكرون وكيف كانوا يعيشون وكيف ماتوا. هل ستكون المتاحف في المستقبل أماكن لعرض رسائل واتس اب وتغريدات تويتر ومقاطع سناب شات وجدت في مقابرنا؟ هل سيكون مكان ما مزاراً سياحياً لأنهم وجدوا فيه آلاف الهواتف النقالة المغمورة تحت الأرض؟!
هل ستقام حفلات في منطقة ما من العالم ويتوافد إليها الزوار لأنها ثرية برسائل البريد الالكتروني والتقارير التلفزيونية ومقاطع اليوتيوب الأثرية التي تعود إلى عصور سحيقة؟!
وعلى أي حال..
تبقى من ذلك العصر الجميل العبارات التي تكتب على الشاحنات، أجد بعضها ممعنا في الجمال وآخر في السخرية، وقد قررت منذ أيام الورق أنني حين أصبح ثرياً ولدي شاحنة فإني سأكتب عليها إحدى عبارتين، إما «صوتي طفولة رعد» لمحمود درويش، أو «النفس طير والخطايا محابيل» لبندر بن سرور. أنتم ماذا ستكتبون لو كنتم أثرياء مثلي ولديكم شاحنات؟
agrni@
لا زلت أحتفظ برسائل كنت أتبادلها مع زملائي أثناء حصص الدراسة في المرحلة الثانوية والجامعية، سخرية من الأستاذ أو من زميل أو من أنفسنا. قصاصات الورق التي ننتزعها من دفاترنا المدرسية هي وسائل التواصل الاجتماعي التي نستخدمها في التعبير عن انفعالاتنا أو نتفق فيها على مشاريعنا بعد نهاية اليوم الدراسي.
نسخر من زميل وقع في الحب، أو صديق يظن أنه يحب، أو نرسم خطة لمباراة كرة القدم التي سنلعبها عصر ذلك اليوم، ومن الأسماء المتاحة التي يمكن أن نستدعيها لتشكيلة فريقنا الذي كان يضحك أكثر مما يسجل الأهداف.
كتبت الكثير من الرسائل بعضها وصل وبعضها ضل الطريق وكثير منها احتفظت به إما لأن الشخص الذي وجهت له الرسالة غير موجود من الأساس أو لأني لم أعثر على عنوانه حتى اليوم.
حين زادت المسافة بيني وبين أصدقاء الرسائل ولم يعد ممكنا تمرير رسائلنا بين الطاولات دون مظاريف بدأت مرحلة جديدة من كتابة الرسائل، حيث لا بد من مظاريف وطوابع وبريد، وانتظار.
أعود أحياناً لتصفح تلك الرسائل العتيقة، أبتسم أحياناً وأصاب بالرعب في أحيان أخرى، كانت تلك الرسائل الورقية صادقة بشكل مريع.
ولحسن حظي أني لم أكن أعرف غادة السمان، ولم أكتب لها يوماً، ولذلك أبدو في مأمن من نشر رسائلي الغرامية. ربما يحتفظ بها أحدهم وينتظر رحيلي لكي ينشرها ولكن الأمر لن يكون مهماً حينها.
حين أحدث أبنائي عن هذه المرحلة يبدو وكأني أحدثهم عن قصص خيال علمي، ويجدون صعوبة في تخيل أن هذه يمكن أن تكون وسيلة للتواصل بين الكائنات البشرية. حين يقول محمد عبده «لا تردين الرسائل» تبدو لهم جملة غير مفهومه ولا معنى لها.
الرسائل الورقية ورائحة الورق أجمل وأكثر صدقاً، لا أحد يعيد تحويل رسالة ورقية، لا بد أن يبذل فيها جهداً أقله أن ينسخها بخط يده.
لكنها بالطبع ليست أكثر عملية من الرسائل الحديثة، لا أحد يريد أن يسأل سؤالاً ويعرف إجابته بعد ثلاثة أسابيع.
المشكلة التي أتخيلها هي كيف سيعرف علماء الآثار بعد ألف سنة من الآن كيف كان يعيش أبناء هذا العصر، وما الذي سيضعون في متاحفهم عن حضارتنا، النقوش الأثرية والعبارات التي تملأ المتاحف هي رسائل أبناء العصور السابقة ومنها عرفنا كيف يفكرون وكيف كانوا يعيشون وكيف ماتوا. هل ستكون المتاحف في المستقبل أماكن لعرض رسائل واتس اب وتغريدات تويتر ومقاطع سناب شات وجدت في مقابرنا؟ هل سيكون مكان ما مزاراً سياحياً لأنهم وجدوا فيه آلاف الهواتف النقالة المغمورة تحت الأرض؟!
هل ستقام حفلات في منطقة ما من العالم ويتوافد إليها الزوار لأنها ثرية برسائل البريد الالكتروني والتقارير التلفزيونية ومقاطع اليوتيوب الأثرية التي تعود إلى عصور سحيقة؟!
وعلى أي حال..
تبقى من ذلك العصر الجميل العبارات التي تكتب على الشاحنات، أجد بعضها ممعنا في الجمال وآخر في السخرية، وقد قررت منذ أيام الورق أنني حين أصبح ثرياً ولدي شاحنة فإني سأكتب عليها إحدى عبارتين، إما «صوتي طفولة رعد» لمحمود درويش، أو «النفس طير والخطايا محابيل» لبندر بن سرور. أنتم ماذا ستكتبون لو كنتم أثرياء مثلي ولديكم شاحنات؟
agrni@