البلد

محمد علي رضا زينل.. رمز العلم والمال

محمد علي رضا زينل، وجيه الحجاز ورمز العلم والمعرفة، رجل لم يشغله ما يحمله في جيبه عن الأفكار التي في رأسه، وكأنما عرف وهو في العشرين من عمره أنه من أجل حياة متوازنة وعادلة يجب أن تسير المعرفة جنبا إلى جنب مع المادة، وحينها قرر أن يستغل طاقة الشباب في تحقيق حلم استثنائي، وأنشأ أول مدرسة في جدة عام 1905، وأطلق عليها مدرسة «الفلاح»، لتتوالى بعدها المدارس التي أنشأها في أماكن متعددة، وكأنه أراد بالعلم والمال أن يصنع معادلة الاستثمار المستدام.

هو مؤسس التعليم النظامي في الحجاز وباقي الجزيرة العربية، تاجر ومن كبار الحجاز وعميد بيوتاتها التجارية، كان عضوا في الحزب الحجازي الوطني الذي أدار شؤون الحجاز بعد سقوط حكم الأشراف عام 1926، وذلك بسبب أن أخاه «قاسم بن زينل» كان نائبا عن مدينة جدة في البرلمان العثماني.

أراد والده أن يجعل منه تاجرا كبقية أفراد الأسرة، وأرسله في وقت مبكر من حياته إلى الهند لإدارة بعض أعمالهم التجارية هناك، ولكنه لم يألف هذا العمل، فهرب من هناك في باخرة إلى مصر للالتحاق بالأزهر، لأنه يريد أن يصبح معلما وخطيبا.

عندما عاد إلى جدة باع مصوغات زوجته مع ما حصله من والده من تبرع وأنشأ بذلك مدرسة في جدة سماها «الفلاح»، ثم أنشأ أخرى في مكة المكرمة، وفي وقت لاحق أقام مدارس عدة في البحرين ودبي ومومباي، وكان يصرف على هذه المدارس بسخاء مما تدره عليه تجارته في اللؤلؤ من أرباح.

وينسب لمدارس الفلاح الفضل بأنها من أخرج الجيل الذهبي من أدباء وشعراء ومفكري الحجاز، إضافة إلى كبار تجارها وبيروقراطييها وموظفي الدولة السعودية الأوائل.

يقول رجل الأعمال البحريني الشيخ حسين عبدالرحمن حسين: لقد كان مجلسه ملاذ كل محتاج، التجار وغيرهم من الناس، وكل من عليه دين لا يستطيع الوفاء به يتوجه إليه، ولم يخذل سائلا أو طالبا في حياته، كان كتوما لا تعرف يساره ما تعطي يمينه.

رئيس مجلس إدارة شركة التوكيلات العمومية الشيخ صلاح الدين عبدالجواد قال عنه: لشدة حبه لرسول الله صلوات الله عليه وسلامه كان يريد لفلاح المدينة المنورة أن تكون عروس مدارسه وأكملها جميعا، سواء تلك التي أسسها في الحجاز أو الهند أو دول الخليج، وكان يخطط لأن تشمل هذه المؤسسة التعليمية كل مراحل التعليم من الابتدائية وصولا إلى المرحلة العلمية، والتي كان يرجو أن يطورها لتصبح بمثابة نواة لدراسات أكاديمية إسلامية بحتة. وأقسم لتكونن فلاح المدينة المنورة كاملة شاملة وأفضل من أي فلاح سبقتها في التشييد، سواء داخل المملكة أو خارجها.

كان إنسان أولا، وتاجرا ثانيا، مشغولا بكسب القلوب ومستثمرا في العقول، يعقد صفقاته على مبدأ أن يربح الجميع، لا يقايض ولا يستغل حاجة أو ظرف، يدخر نفسه وثروته لتحقيق حياة أفضل للإنسان.

في نوفمبر 1929 بادر باصطحاب 20 طالبا من مدارس الفلاح معه للهند، للدراسة بانتظام والتخصص في العلم الشرعي وعلمي الاجتماع والأخلاق، وتكونت البعثة من 10 طلاب من فلاح مكة، و10 طلاب من فلاح جدة، والتي تعد أول بعثة علمية دراسية منظمة سعودية.

وحينها خصص لهم راتبا شهريا قدره 6 جنيهات ذهبية و10 روبيات مصروف يد، إضافة للطعام والمسكن والملبس المجاني، وفرض لهم جدول يوم لأوقات الصلاة والدراسة والتسلية، وغيرها، وبدأت بعثتهم ودراستهم في مومباي، إلى أن رجعوا إلى جدة في 31 ديسمبر عام 1933.

صديق اللؤلؤ، رجل الألماس والنقاء، أصيل ونادر، اشتغل في الهند بتجارة اللؤلؤ منذ العهد العثماني للحجاز، حيث كان يشتري اللآلئ من مواسم الغوص من الموانئ الخاصة بذلك في البحرين ودبي ثم يصنف هذه اللآلئ بعد ثقبها وصقلها في عقود وحلي وحلقان، وبيعها حسب أصنافها في العواصم العالمية والأوروبية، حيث مكاتبه المنتشرة في لندن وباريس ومومباي، حتى لقب بملك اللؤلؤ في العالم.

وعندما أنتجت اليابان اللآلئ الصناعية لم يتوقف «زينل» عن شراء اللآلئ الطبيعية مشفقا على تجار اللآلئ في دول الخليج قائلا: من يسدد عنهم ديونهم إذا لم يستطيعوا بيع ما لديهم؟ وكيف يصرفونه وقد تعودوا أن يبيعوه لي ويفضلوني على غيري من التجار؟

وكان أن هبطت قيمة اللآلئ الطبيعية بصورة حادة جدا، أشهر معها كل تجار اللآلئ إفلاسهم حتى يتخلصوا مما عليهم من ديون، لكنه لم يشهر إفلاسه ولم يرض لنفسه عدم تسديد ديونه، وقال «إن الدين الإسلامي لا يسمح له بذلك طالما أنه قادر على العمل، وإنه من خلال عمله يستطيع سداد ديونه عاجلا أو آجلا».

رفض إشهار إفلاسه على ضوء انهيار تجارة اللؤلؤ العالمية، وأصر على سداد ديونه كاملة للبنوك، كما تكفل بإقالة عثرة مئة من كبار تجار اللؤلؤ الطبيعي وتحمل الخسارة وحده عنهم، وعلى الرغم من خسارته لأكثر من 90% من ثروته، كان يقترض ليستمر في الإنفاق على ملاجئ الأرامل والأيتام وتحمل مصاريف التعليم في مدارس الفلاح وطلاب البعثات.

بعد ذلك تحول من الاعتماد على تجارة اللؤلؤ إلى الاتجار في الألماس والمجوهرات بمختلف أنواعها، بالإضافة إلى اللؤلؤ أيضا، والذي كان يشعر نحوه بضعف شديد، أو قل إنه كان يشعر نحوه بحنين ووفاء، فقد كان السبب في أن أصبح من أثرى أثرياء العالم. بحسب الشيخ محمد علي عبدالله البسام.

يقول أمير الجامعة السيفية بمومباي الدكتور يوسف نجم الدين: كان في الهند وخصوصا في مدينة مومباي يمثل ما حكم به الإسلام وأمر به من الخلق والآداب والفكرة الصحيحة والاتجاه السليم تجاه الحياة بكاملها، مندمجا في المجتمع الإسلامي في المدينة، وكان محترما من الجميع كزعيم له ثقله ووزنه.

حظي بعلاقات وطيدة مع الزعماء والملوك والقادة من الجدود إلى الأحفاد، وكان يستقبل استقبال الزعماء، تقديرا لمكانته ولأعماله التي خدمت الأمة العربية والإسلامية، وساهمت في نشر المعرفة، وساندت أعمال التنمية.

لم يكن يثق في قدرات الأطباء الأجانب، وحين أصابه المرض ألح الملك فيصل أن يدخل المستشفى وأن تجرى له العملية الجراحية، تقديرا لمآثره وأعماله في سبيل العلم والدين والوطن.

عاش تسعين سنة، وتوفي في مومباي، ومرض قبل وفاته لكنه لم يتعب في مرضه، وإنما كان موته أشبه بالانحلال الطبيعي، لأنه ذو صحة جيدة وذو مناعة مستمرة أيام كهولته وشيخوخته، وانتقل إلى رحمة الله وهو يبتسم وينطق بالشهادتين، ودفن بالجبانة الإسلامية الخاصة بالوجهاء.

اهتمامه بالعلم كان بمثابة وسيلة لرؤية عظيمة عبر عنها بقوله «لما تفكرت في حالة بلاد الإسلام وفي حالة المسلمين بدا لي أن البقية الباقية من الممالك الإسلامية آخذة في الانقراض، وأن الإسلام في المسلمين آخذ في الوهن، وأنه لا دواء لهذا الداء إلا بتمسك المسلمين بدينهم. وتمسكهم بدينهم لا يكون إلا بتعليم علوم الدين من الصبا وتعلمهم العلوم الحديثة، وذلك من الدين، ليتمكنوا من جميع الصنائع المدنية والحربية، ويقاوموا العدو بمثل آلاته وتجاربه، وهذا الدواء يكون بنشر المدارس في العالم الإسلامي».

«على الرغم من خسارته لأكثر من 90% من ثروته، كان يقترض ليستمر في الإنفاق على ملاجئ الأرامل والأيتام وتحمل مصاريف التعليم في مدارس الفلاح».

«حظي بعلاقات وطيدة مع الزعماء والملوك والقادة من الجدود إلى الأحفاد. وكان يستقبل استقبال الزعماء، تقديرا لمكانته ولأعماله التي خدمت الأمة العربية والإسلامية».

فرد ناهض

من قصيدة للأديب محمد حسن عواد، قيلت خلال الاحتفال بعودة محمد علي زينل للمملكة بعد سنوات من الغياب.

إنها قصة فرد ناهض في قومه غض الإهاب

سهر الليل وضحى بالشباب العذب في معنى الغلاب

قام فعالا مريدا مؤمنا مستسهلا جم الصعاب

ماضي القدرة بالإيمان والجرأة في هذا العباب

ومضى والناس في نوم وإحجام من الصوت المجاب

وأنشأ يبني وفي الأمة من يدعو إلى الهدم العجاب

فأقام الصرح معتزا ولا أزعمه فوق السحاب

إنما أزعمه قام وما زال على هام الشباب

قام حيا الله بانيه ليدعونا إلى مجد الجدود

وإلى المستقبل النير.. فلنهنأ بذا الباني المجيد

فاهتفي يا هذه الجدران في الجمع أناشيد الخلود

وانطلق يا أيها الماضي من الغيب إلى هذا الصعيد

واسمعي يا أيتها الآذان في الجيل ترانيم النشيد

من هو الباني؟ أجل من هو هذا البطل السامي الأبي؟

من هو الفرد الكبير العامل الحر الكريم العبقري؟

إنه هذا الذي يكبره الحاضر والماضي الوفي!

وهو من يحنو له الجيل بإجلال فيشتد الدوي

هو ذا الزينلي الفذ في الأمة.. عاش الزينلي