الرأي

قيد الحاجة القاسي

مرزوق تنباك
تتحدث المنظمات الحقوقية في العالم عن انتشار ظاهرة جديدة من العبودية في دول كثيرة، وهي ليست عبودية الرق المعروف قديما، ولكنها عبودية جديدة أحدثتها الظروف التي يمر بها البشر في هذا الوقت، كانت العبودية الأولى نتيجة القوة والقهر والغلبة، وهي ظروف ماضية لها أسبابها وموجباتها التي جعلت العالم القديم يتقبلها ويمارسها على نطاق واسع، وعبودية اليوم لها أيضا أسبابها وموجباتها وإن كانت من نوع آخر غير مقبول ولا مبرر له، حكمت بها أحداث وظروف جدت على الناس مثلما كان للرق قديما ظروف أوجدته وحكمت به، ومن هذه الظروف الجديدة التي أعادت العبودية المقنعة بقناع المصالح والحاجات الفقر والنزاعات والحروب الداخلية التي تجتاح بعض الدول، ولا سيما في الشرق الأوسط، إذ تفرز الضعفاء وتلقي بهم في متاهات الحياة، حيث يستغل حاجتهم الأقوياء ويستعبدونهم بأعمال تحد من حرياتهم وتضاعف بؤسهم وتضعهم في موضع الرق والاستعباد وإن اختلف الاسم والمسمى.

كانت القوة هي سبب الرق الأول والاستعباد، فأصبحت الحاجة للعمل والفقر والعوز الذي يعاني منه المعوزون هي السبب في الوقت الحاضر، هذه العبودية الجديدة ثمنها لقمة العيش التي يبحث عنها الجائعون فيقبلون عمل السخرة لسداد الحاجة والتنازل عن الحرية والقبول بالقيد القاسي قيد الحاجة الذي أحكمته الحروب والكوارث التي يشعلها ويباركها الأقوياء القادرون، ونتيجتها سحق الضعفاء من النساء والأطفال ومن لا يستطيع التحدي الذي تفرضه تلك الحروب وتداعياتها، وأكثر أنواع العبودية في هذا الوقت الأعمال القسرية التي تفرض في كثير من الدول، والأعمال الخفية التي لا يظهر الفاعلون فيها للعيان، وقد حل مصطلح الاتجار بالبشر بدل المصطلح التاريخي للرق وكلاهما يؤديان إلى نتيجة واحدة هي استغلال الناس بأنواع من الاستبداد والتسلط الظالم الذي يحد من حريتهم ويهدد وجودهم ويعيدهم إلى مرحلة الاستعباد الأولى.

الحرية قيمة إنسانية عليا يسعى كل فرد لتحقيقها لنفسه، وقد يولد الإنسان حرا في أصل وجوده وهو أشد مخلوقات الله حنينا إلى الانعتاق وأقوى نزوعا نحو التحرر من العبودية أو التحكم في إرادته، وحرية الإنسان هبة الله ومسألة حيوية لا تكاد تنفصل عن الوجود الإنساني نفسه، ومن يسلب حرية المرء كمن يسلب نفسه من جسده، ولا يليق بالمرء أن ينزل عن حريته لغيره إلا أن ينزل عن حياته التي وهبها الله له، فالحرية شمس يجب أن تشرق على كل نفس بريئة، ومن عاش محروما منها كان في ظلمة الحياة التي يتصل أولها بظلمة القهر والبؤس وآخرها بظلمة القبر. ولا سبيل للسعادة إلا إذا عاش الإنسان كما أراد له خالقه حرا طليقا لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر، إلا أدب النفس ومعنى الكرامة، ولولا الحرية التي يتمتع بها الناس لما عمرت الأرض ونشأت الحضارات ونعم الناس بفضل ما تبدعه العقول الحرة المستنيرة، ومن يطالب بحريته ليس متسولا ولا مستجديا، لأنه يطلب حقا ثابتا من حقوقه المشروعة.

والحرية ركن من أركان السعادة، بل هي السعادة عينها، ومصادرة الحرية تعني مصادرة الوجود الطبيعي للمخلوق، لهذا عدتها الأمم التي أدركت سر النجاح من أهم ما يبقى بعد كل شيء، وأقرب وصف للحرية العادلة هي استواء الطرفين في الحقوق العامة، وهو ما يتبادر إلى الذهن حين يتصور الإنسان نفسه حرا ويستطيع أن يعمل بمحض قدراته وإرادته والاستقلال الذاتي. ويجب أن تكون الحرية حقا للجميع وفق معايير أخلاقية يقرها المجتمع وتقبلها الإرادة السليمة. ومن المؤسف أن تكون بعض دول العالم الثالث والشرق منه خاصة ضمن الدول الأكثر استغلالا للبشر والاتجار بهم.

Mtenback@