تفاعل

لا تحاول

فوزية حسين الشنبري
كان تشارلز بوكوفسكي مدمنا على الكحول، مقامرا، زير نساء، وعاملا بسيطا في مكتب للبريد، وكان في أسوأ أيامه شاعرا. أراد بوكوفسكي دائما أن يكون كاتبا، لكن أعماله التي يكتبها ظلت عقودا من الزمن تواجه بالرفض من جانب كل صحيفة ودار نشر، بل والسخرية منها، يقولون إنه عمل سيئ ومقزز ومفقر. ومع تراكم رسائل الرفض عليه، كان ثقل الفشل يدفعه أعمق نحو هاوية الاكتئاب، يغذيها الكحول والعادات السيئة، واكتئاب لم يفارقه طوال حياته.

أمضى 30 عاما على هذه الحال، كان يكتب بعض الشعر على آلة كاتبة قديمة كان يملكها، بلغ بوكوفسكي الـ 50 الشطر الأعظم منها عديم المعنى ما بين القمار والكحول والفشل واحتقار الذات. أبدى أحد المحررين في دار نشر صغيرة مستقلة اهتماما غريبا بكتابته، لم يكن قادرا على منح بوكوفسكي المال الكثير، ولم يمنحه الوعود الكثيرة بالنجاح والمبيعات التي قد تكتسح السوق في ذلك الوقت، لكنه أبدى اهتماما صغيرا، وأعطى ذلك السكير الفاشل فرصة ذهبية حين راهن عليه.

شعر بوكوفسكي حينها أنه أمام فرصة حقيقية، وأدرك أنه من الممكن أن تكون آخر صفقة حقيقية يحصل عليها، فرد عليه بوكوفسكي «لي أن أختار واحدا من اثنين: البقاء في مكتب البريد حتى أجن تماما أو البقاء هنا في الخارج لتمثيل دور الكاتب والتضور جوعا. لقد قررت أن أموت جوعا».

كتب روايته الأولى في ثلاثة أسابيع فقط، بعد أن أبرم العقد مباشرة مع المحرر، وقد وضع لها اسما في غاية البساطة «مكتب البريد». وفي المكان الذي يكتبون فيه الإهداء كتب «مهداة إلى لا أحد».

لقذ كتب لبوكوفسكي أن يكون روائيا لامعا، حيث نشرت له ست روايات ومئات القصائد، وبيع أكثر من مليوني نسخة من كتبه. لقد خالفت الشعبية التي حظي بها كل التوقعات، بل وخالفت توقعاته هو عن نفسه.

كان نجما ساطعا في وقته والجميع يتحدث عنه، فحين يقول أحدنا للآخر «أرأيت أنه لا يستسلم أبدا ولا يكف عن مطاردة حلمه، وأنه مؤمن بنفسه دائما، فلقد واصل الإصرار في وجه كل العقبات التي كانت أمامه وجعل من نفسه رجلا مهما وحقيقيا» عندها يجب أن يكون غريبا أن نجد الكتابة المنقوشة على قبر بوكوفسكي «لا تحاول»، وكانت جزءا من قصيدة مشهورة له، وجهها بشكل مباشر إلى الروائيين والشعراء وكل من يحاول الوصول إلى الأدب العريق.

رغم كل الشهرة التي وصل إليها، والمبيعات التي فاقت حد التصور لمجموعاته الروائية والشعرية، إلا أنه كان يتكلم عن ذاته بتجرد أكثر وصدق أكبر، كان لا يتردد عن كشف فشله أمام الناس بحرية مطلقة. بعيدا عن فكرة أن النجاح لا بد أن يأتي مع التطور الذاتي للشخص، إلا أن بوكوفسكي ظل ذاته الرجل التائه، الفاشل في نظر نفسه، المتصالح مع صدقه وحقيقته التي لن يعرفها غيره. في حين أنه كان يضع كل الاحتمالات الجيدة من أجل احتمالات سيئة في داخله. لذلك كان هذا نوعا من التصالح مع النفس أن تكون كلمته الأخيرة «لا تحاول».