الرأي

تأملات في حضارة الفجر!

عبدالله المزهر
ما لا تلمسه بيديك فهو غير موجود، هذه هي النهاية التي يريد العالم أن يصل إليها، أصبحت كل الأشياء التي لا ترى ولا تلمس لا أهمية لها، وتتراجع في قائمة أولويات الإنسان، ضيف الأرض الثقيل.

لا أريد أن أبدو واعظا ربما لأن هذا سيفقدني مركزي الذي أريد المحافظة عليه بين الغافلين. وربما لأن للوعاظ «سمت» معينا لم أجد أنه يلائمني.

لكن الأمر لم يعد يخص الواعظين فقط، العالم يتوحش بشكل بشع، ولم تعد المقاييس المادية الملموسة هي الأهم فقط، بل لم يعد هناك غيرها من الأساس.

الوقت الوحيد الذي يختبئ فيه الإنسان ويقترب من آدميته هو حين يخلد للنوم، فيما عدا ذلك فهو فريسة مطاردة، زبون في سوق وسلعة في أخرى. وإني أتمنى أن أفارق هذه الحياة قبل أن يجدوا طريقة للإعلان داخل أحلام الناس. سواء أحلامهم في مناماتهم أو في يقظتهم. سيكون تدميرا لآخر معاقل الحياة.

الفكرة الحمقاء التي تصدقها البشرية وتروج لها هي أنها تخلصت من الرق والعبودية، وهذه كذبة صمعاء عمياء. فالرق الذي تخلص منه الإنسان هو أن يكون مملوكا لإنسان آخر، أما الآن فهو مملوك لكل الآخرين. للشركات ولتجار الحروب وللإعلانات التجارية ولرب العمل وللوظيفة نفسها وللأفكار التي لا تخصه من الأساس.

لم يعد عبدا للحاجة فقط، بل وأشد عبودية لما لا يحتاجه أيضا، الهوس بالماديات والكماليات تعدى بكثير مرحلة العبودية التي تظن البشرية أنها تخلصت منها.

ومشكلة الإنسان الأزلية أنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم ولن يفهم مستقبلا، وتصوره للحياة يأخذ شكلا معماريا هندسيا. والحضارات اللاحقة لا يبهرها في الحضارات السابقة إلا مبانيها وعمرانها، حتى وإن كانت تلك الحضارات السابقة ظالمة مؤذية لم تبن تلك الحضارات إلا بدماء الناس.

في سورة الفجر، وبعد قسم الله سبحانه الذي خاطب به أصحاب العقول تحدث عن أمم أهلكها (ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد).

ولو تأملت قليلا لوجدت أن الرابط المشترك بين هذه الأمم هو أنها جميعا متقدمة جدا بمقياس الحضارة المادي الملموس، ووصفهم في الآيات كان مرتبطا بتلك الحضارة ومنسوبا إليها.

الآيات تريد أن تقول ببساطة، ليس هذا ما يراد منك أيها الإنسان، أنت وجدت على الأرض لتكون إنسانا أولا ثم افعل ما بدا لك. ولو أن العمران والبناء والعماد والأوتاد هي الغاية من وجودك لكان عاد وثمود والفراعنة يحكمون العالم الآن ولهم عضويات دائمة في مجلس الأمن.

وعلى أي حال..

يؤسفني ـ قليلا ـ أن العالم لن يستيقظ صباح الغد ثم يقرر أن يتغير متأثرا بمقالي، هذا لن يحدث وسيستمر التوحش البشري حتى يوقفه النفخ في الصور. كل ما في الأمر أني أحب أن أصرخ قليلا وأحتج. لا لكي أغير العالم لكن حتى أقنع نفسي أني ربما كنت إنسانا في حياة أخرى.

agrni@