الرأي

الجمعة في الأدب القروي!

عبدالله الأعرج
لم يكن يوم الجمعة في القرية يوما عاديا قط! ولم يكن أهل القرية يوم الجمعة هم أهلها يوم السبت أو الأحد أو الأربعاء أو الخميس!

كانت إرهاصات الجمعة تبدأ بانتحار يوم الخميس وسكون الليل، فترى الجد يكرر أجندته المعتادة Friday Agenda على الجدة و»ليستة» الطلبات التي لم تتغير منذ أعوام، وذلك بلهجة أشبه بالمتذمرة، على الرغم من أن الطلبات أدناه لم تغب في أي جمعة سابقة:

- ماء دافئ لغسل الجمعة.

- ثوب نظيف غير ثوب العمل المهترئ.

- بشت كاد طول العهد يبليه لا يحمل من مقومات (الكشخة) سوى أن اسمه (بشت).

- إبلاغ المزين (حلاق القرية) للحضور مبكرا لحلاقة الوجه أو تهذيب اللحية بشنطته متعددة الاستعمالات التي تحوي أدوات حلاقة وكماشة خلع أسنان وغيرها كثير.

- مغازلة الجدة على استحياء بأن فلانا وعلانا ربما كانوا ضيوفا مرتقبين لغداء الجمعة.

أما الماء الدافئ فقد كان مطلبا لا ترفا، ذلك أن الطقس بارد جدا حينها، مما يعني ضرورة إضرام النار لتدفئة الماء في ظل غياب أبجديات التدفئة. كان القدر الذي يسخن فيه الماء بائسا، فعلاوة على اسوداده من الحطب والدخان فإنه مطلوب في خدمات إرواء الزرع المنزلي وطبخ الطعام وحمل الطعام المهدى للجيران إن وجد!

ولثوب الجمعة القروي حكاية ليست بأحسن حالا من القدر، فقد كان ثوب الجمعة ثوب الاستضافة وثوب التضيف وثوب الاجتماعات المعلنة وثوب من لا ثوب له حين يطلبه أحدهم لموعد مفاجئ! كان الثوب جميلا مقارنة بالأثواب الأخرى البالية التي أنهكتها السنون ومزقتها شر ممزق. وما أنس لا أنسى منظر (المشبك) الذي كان يجمع شقي الرقبة في ظل غياب الأزارير التي لم تكن لتقنع جدا (بهذا الحجم) وترقى إلى مستوى تطلعاته وذائقته.

وحين تذكر (الرزة) فلن يستعصي علي تذكر ذلك البشت الوبري الخامة المفرط في الفخامة، والذي كنا نراه رسولا من الهيبة قل نظيره. كان البشت مقبولا للأمانة من حيث الشكل العام، بيد أن مشكلته الكبرى كانت في تفلت بعض (الكتل) الدائرية في أطرافه، حيث إن بعضها ذهب ضحية لمعانقة الأشجار الملتفة بأزقة القرية الضيقة، أما ما تبقى منها فقد وقع في مرمى نيران الأطفال الذين يثق بهم الجد في مجلسه مع ضيوفه فيقربهم منه حبا لهم، بينما ينشط مكرهم في اقتناص تلك (الكتل) الجانبية للبشت ليجهزوا على ما تبقى منها، فلا يكاد ينفض المجلس إلا وقد خسر بشت الجد اثنتين منها على أقل تقدير.

وللعم حسن حلاق القرية وكبير مزينيها Village Senior Stylist يوم الجمعة حديث ليس كمثله حديث. ذلك أن أذنك لن تخطئ سماع مقصه يصلصل في مشهد أشبه بالاستعراض منه إلى أداء العمل! (اعتزاز بالعمل المهني!!!). كان العم حسن يحضر إلى المنزل ضحى ليقوم بحلاقة وجه الجد وتهذيب لحيته مستعرضا براعته في ذلك، ومتعاليا بنبرة (أنا واحد من نوعي) على شيبان القرية. فلا يكاد يفرغ من جراحته (عفوا حلاقته) حتى نهرع بالماء إلى الجد ليكمد جراحه، وما ذلك إلا لاهتراء الموس وتآكل المقص وسوء الحلاقة!

ومع قرب وقت الصلاة تبدأ حرب ناعمة في الاشتعال بين الجد والجدة، وقودها ضيوف مرتقبون على الغداء يحبهم الجد وتمقتهم الجدة! فترى الجد يبدأ حديثه بـ «يا أم عبدالله» ولا يكاد ينتهي بعد شد ورد إلا وقد أقسم بالله أنهم سيحضرون وأنه لن يتراجع عن رغبته ولو خسر من ماله ودفع من صحته. فتعلوا الأصوات وتتحول نواعم الحروب إلى ضروس يفر من ساحتها الأطفال ويحضر المصلحون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

مشاهد أتذكرها طفلا صغيرا بريئا وأتذكر جمالها ووداعتها، أتذكر بروتوكولات الجمعة بجميلها ومزعجها، فأتذكر يوما حافلا مختلفا في كل شيء، أتذكر التبكير إلى الصلاة وقراءة القرآن والحديث مع المصلين بعد الصلاة، والتواصي على الخير. أتذكر كل هذا وأنا ساخط على كل جديد باتت معه الجمعة يوما اعتياديا كباقي الأيام. رحم الله أنوار البيوت فقد ذهبوا وأتعبوا من بعدهم.