الرأي

الاحتفاء بالنوادر

مرزوق تنباك
منذ قال الشاعر العربي الأول: إن الكرام قليل، والندرة تأخذ مكانا بارزا في المخيال العربي، بل لعله عند الناس كافة، حيث تكون الندرة مقدرة ومعتبرة في الصفات والأخلاق فضلا عن المال والاقتصاد، ولها مكانة مقدسة، ومحترم النادر من الأشياء والأفعال والصفات التي يحققها فرد من الناس أو أفراد منهم، لكن في الثقافات التقليدية يكون للندرة وقع خاص في نفوس المتلقين الذين يرون العمل القليل كثيرا إذا كان موجبا ويستحق الثناء والإشادة والتبجيل.

قبل أسابيع تكلمت امرأة أجنبية في محفل أممي كبير واستعملت في كلمتها أمام العالم اللغة العربية التي ليست لغتها ولا تلزمها المناسبة باستعمالها، فهب العالم العربي بكل وسائله يثني ويشكر ويعجب بهذه المرأة التي صدعت بلغته على منبر الأمم المتحدة وكأنه لم يسمع العربية إلا في تلك المناسبة، بينما أبناء العربية وحماتها إذا جمعتهم للاحتفالات والمؤتمرات - في غير الأمم المتحدة - تجاوزوا العربية وتحدثوا بغيرها، هذه الحالة النادرة اتخذت حيزا كبيرا في الصحافة العربية ليس لأن السيدة اختارت العربية لتخاطب بها أمما لا تعرفها لكن لأنها أقدمت على عمل نادر حدوثه حتى من أهل اللغة فضلا عن البعيدين عنها، هذا مثال على ما تعنيه الندرة للناس.

أما المثال الثاني والمهم فقد ودع الدنيا إلى الآخرة في هذا الأسبوع، زعيم عربي هو المشير عبدالرحمن سوار الذهب رئيس جمهورية السودان في وقت مضى رحمه الله وغفر له، فهبت الذاكرة العربية تترحم عليه وكأنه الزعيم العسكري العربي الوحيد الذي قدم إلى ربه، لقد مات عشرات الزعماء العرب العسكريين الذين استولوا على السلطة أو وصلوا إليها وماتوا عنها، نعتهم عند موتهم علية القوم والمستفيدون منهم والمقربون لهم ودعوا لهم وذكروا حسناتهم وفضائلهم ونساهم الناس ولما يجف ثرى قبورهم.

أما سوار الذهب فقد أخذته الندرة إلى قلوب الناس كافة من يعرفه ومن لا يعرفه وهو لم يفعل شيئا كبيرا يستحق هذا الجو المشحون بالعواطف من عامة الناس الذين لا شأن لهم في الحكم والحكام.

ما فعله هو أنه حكم مدة انتهت، وبانتهائها سلم الحكم إلى الشعب وتنازل بمحض إرادته ولم يجعل الكرسي هو غايته ومطلبه، ما فعله سوار الذهب هو ما تفعله الأمم كلها من مشارق الأرض ومغاربها إلا في العالم العربي الذي لا يترك الزعيم فيه الحكم ولا يتنازل عن الكرسي الذي وصل إليه. خالف سوار الذهب كل من سبقه من الرؤساء العرب وسلم الحكم طائعا إلى شعبه ووفاء بوعده.

مضى على تسليمه السلطة للحكومة المنتخبة من الشعب أكثر من 32 سنة، لم ينسه الناس خلال هذه المدة الطويلة وكأنه لا زال في سدة الحكم، وهؤلاء الذين شيعوه في المدينة وساروا وراء نعشه يهللون ويكبرون لم يكونوا في السودان البلد الذي حاول أن يقوده إلى الديمقراطية وتبادل السلطة، بل لعل أغلبهم لم يولد حينذاك، ولكنه الذكر الذي تتركه الأعمال الجليلة.

عملت الندرة عملها وأحلته قلوب الناس ليس من شعب السودان فحسب المعني بالأمر قبل غيره، بل في قلوب العرب جميعا، رأيت الصلاة عليه في المدينة المنورة مثلما شاهد غيري الجموع الكثيرة التي مشت في جنازته، وقلت: صدق من قال لمن تحدى مكانته في الدنيا: موعدنا الجنائز. رحم الله المشير عبدالرحمن سوار الذهب وغفر له.

Mtenback@