الضيف واللحمة!
الاحد / 12 / صفر / 1440 هـ - 17:45 - الاحد 21 أكتوبر 2018 17:45
دعوت زميلة دراسة أمريكية إلى الغداء في مطعم الجامعة على خلفية دعوة سابقة لي من قبلها قوامها jacket potato وهي عبارة عن بطاطس واحدة مخبوزة وبقلبها حشوة من جبن الشيدر وبضع أوراق من الجرجير على حافة الطبق.
ولما كان (الضيف في حكم المضيف) هرعت بدوري إلى الـ carvery (مطعم يقدم شرائح لحم طازجة) بعد دعوة الزميلة لي بفترة قصيرة لرد الجميل، منطلقا من الكرم العربي الذي لا مساومة عليه، وطلبت شرائح من اللحم مع الصوص الناتج من عصارة اللحم وبعض المحسنات والمسمى gravy، ورأيت أن هذه الوجبة ستكون انعكاسا لحالة الرخاء الذي أعيشه كطالب مبتعث مقارنة بالزميلة التي تدرس على حسابها الشخصي!
أحضر النادل الطعام لي ولضيفتي فبادرت إلى طبقي وبدأت الأكل دون أن أنتبه للزميلة التي كانت تفتش في جيبها قبل أن تبدأ في الأكل وكأنها قد فقدت شيئا، أو أنها تريد أن تأخذ علاجا أو ما شابه، فسألتها: ما الخطب (جوي)؟ جاء الرد مزلزلا بعد أن أخرجت زميلتي قصاصة من جيبها مليئة بالأرقام ووضعتها أمامها على الطاولة وبدأت تتمتم لبعض الوقت، إلى أن أدركت أنها تقوم بمراجعة كم جراما من اللحم استهلكت في ذلك الأسبوع، ليأتي القرار الأكثر زلزلة بأنها لن تستطيع تناول أكثر من ربع شريحة اللحم التي أمامها، وبالتالي فإنه بإمكاني أخذ ما تبقى من شريحة اللحم الخاصة بها أن أردت!
اختلطت وتداخلت حينها كل حساباتي كمضيف وغططت قليلا فيما أعتبره (سباتا فكريا طعاميا ) لأحلل ما قالته جوي من جهة، وأراجع إمكانية أخذ قطعة من اللحم من طبقها وهو الأمر الذي ترفضه قيم العربي الأشم الذي يأنف أن يأكل طعام ضيفه! سألتها إن كان هذا القرار (أي الاكتفاء بربع شريحة اللحم) نابعا عن وصفة طبية ملزمة لها، فجاء الجواب؛ بل هو جزء من الحياة الصحية الطبيعية والحمية المتوازنة لأي شخص يريد أن يحيى سليما معافا من الأذى!
حينها طرت قسرا وحلقت بعيدا جدا دون أن أرد على جوي وأنا أفكر وأستعيد الماضي، متذكرا مضيفي في جدة وهو يقول: استروا ما واجهتم! ماهو قدركم! اعذرونا ع القصور! قدركم أكبر!
صمت برهة وقلت الحمدلله أن جوي لم تكن من ضمن الضيوف لترى بأم عينها حيوانا أليفا كامل الأعضاء ما عدا الجلد يتربع على صحن كبير ويقف بجانبه شخص يحمل بيده سكينا ويصرخ بأن هذا الكائن بلحمه وشحمه قليل في حق ضيفه!
انفض الموقف وانتهى الغداء بحسنتين جميلتين سأظل أذكرهما دوما:
الأولى: أن الكرم لا يعني الحشو بالمأكل والمشرب، وإنما بإعطاء الضيف حقه من الضيافة دون تبذير أو إسراف أو إهانة للطيبات من الرزق، دون إسراف في الكمية أو إسراف في تناول ما يزيد على حاجة الجسم، وقد كانت جوي أفضل مني فيهما، بدليل أنها اكتفت في دعوتها لي بالبطاطا المخبوزة التي كانت كافية لسد جوعي تماما كشريحة اللحم!
والثانية: أن الانضباط في الحياة بمجملها سلوك ينعكس في كل شيء. وصاحبتي (ضيفتي) ضربت لي مثلا حينما أيقظتني من (سباتي الحياتي) الذي كنت أنظر من خلاله بأن النظام مقتصر على العمل وأداء الواجبات والفروض والوفاء بالالتزامات المتعددة فحسب، لتؤكد لي من خلال هذا الموقف البسيط أن جودة الحياة بأكملها خيط متصل من التوازنات التي لا ينقطع أولها عن آخرها في المأكل والمشرب والتسوق والعمل والنوم والجدال والتعلم والسياحة والمقاضاة والتعاملات، وأن مجمع كل هذا النظام الحياتي يتلخص في كلمة واحدة هي (ولا تسرفوا).
وها نحن اليوم وقد كثرت القصص وفاضت المواقف التي تتحدث عن جودة الحياة بأقل التكاليف ما زلنا نلحظ (أخطبوطات) من المتمسكين والصاملين والمرابطين عند قيم بالية بائسة تقدم الهوى على العقل والجهل على الحكمة والصفاقة على الأناقة، فيبالغون في كل جميل حتى يحيلوه إلى قبيح ويتوارثون كابرا عن كابر عبارات لا تعكس تطورا في منهجية الفكر الحياتي، ولا فهما لفقه الواقع وواقع الحال.
ولأن الوقت ما زال فيه متسع - طالما أن الحياة مستمرة - فإنني أدعو كل ذي لب ممن يحضر مناسبة أو يغشى حدثا يرى فيه تجاوزا وإسرافا في الضيافة والرفادة إلى أن يتحلى بالشجاعة في إظهار امتعاضه من ذلك، بالمصارحة الأنيقة للمضيف، فإن لم يستطع فبإرسال رسالة، وإن تعذر ذلك فبتناول شيء لا يذكر من الطعام المبالغ فيه ثم القيام عنه، وذلك أضعف الإيمان!
ولما كان (الضيف في حكم المضيف) هرعت بدوري إلى الـ carvery (مطعم يقدم شرائح لحم طازجة) بعد دعوة الزميلة لي بفترة قصيرة لرد الجميل، منطلقا من الكرم العربي الذي لا مساومة عليه، وطلبت شرائح من اللحم مع الصوص الناتج من عصارة اللحم وبعض المحسنات والمسمى gravy، ورأيت أن هذه الوجبة ستكون انعكاسا لحالة الرخاء الذي أعيشه كطالب مبتعث مقارنة بالزميلة التي تدرس على حسابها الشخصي!
أحضر النادل الطعام لي ولضيفتي فبادرت إلى طبقي وبدأت الأكل دون أن أنتبه للزميلة التي كانت تفتش في جيبها قبل أن تبدأ في الأكل وكأنها قد فقدت شيئا، أو أنها تريد أن تأخذ علاجا أو ما شابه، فسألتها: ما الخطب (جوي)؟ جاء الرد مزلزلا بعد أن أخرجت زميلتي قصاصة من جيبها مليئة بالأرقام ووضعتها أمامها على الطاولة وبدأت تتمتم لبعض الوقت، إلى أن أدركت أنها تقوم بمراجعة كم جراما من اللحم استهلكت في ذلك الأسبوع، ليأتي القرار الأكثر زلزلة بأنها لن تستطيع تناول أكثر من ربع شريحة اللحم التي أمامها، وبالتالي فإنه بإمكاني أخذ ما تبقى من شريحة اللحم الخاصة بها أن أردت!
اختلطت وتداخلت حينها كل حساباتي كمضيف وغططت قليلا فيما أعتبره (سباتا فكريا طعاميا ) لأحلل ما قالته جوي من جهة، وأراجع إمكانية أخذ قطعة من اللحم من طبقها وهو الأمر الذي ترفضه قيم العربي الأشم الذي يأنف أن يأكل طعام ضيفه! سألتها إن كان هذا القرار (أي الاكتفاء بربع شريحة اللحم) نابعا عن وصفة طبية ملزمة لها، فجاء الجواب؛ بل هو جزء من الحياة الصحية الطبيعية والحمية المتوازنة لأي شخص يريد أن يحيى سليما معافا من الأذى!
حينها طرت قسرا وحلقت بعيدا جدا دون أن أرد على جوي وأنا أفكر وأستعيد الماضي، متذكرا مضيفي في جدة وهو يقول: استروا ما واجهتم! ماهو قدركم! اعذرونا ع القصور! قدركم أكبر!
صمت برهة وقلت الحمدلله أن جوي لم تكن من ضمن الضيوف لترى بأم عينها حيوانا أليفا كامل الأعضاء ما عدا الجلد يتربع على صحن كبير ويقف بجانبه شخص يحمل بيده سكينا ويصرخ بأن هذا الكائن بلحمه وشحمه قليل في حق ضيفه!
انفض الموقف وانتهى الغداء بحسنتين جميلتين سأظل أذكرهما دوما:
الأولى: أن الكرم لا يعني الحشو بالمأكل والمشرب، وإنما بإعطاء الضيف حقه من الضيافة دون تبذير أو إسراف أو إهانة للطيبات من الرزق، دون إسراف في الكمية أو إسراف في تناول ما يزيد على حاجة الجسم، وقد كانت جوي أفضل مني فيهما، بدليل أنها اكتفت في دعوتها لي بالبطاطا المخبوزة التي كانت كافية لسد جوعي تماما كشريحة اللحم!
والثانية: أن الانضباط في الحياة بمجملها سلوك ينعكس في كل شيء. وصاحبتي (ضيفتي) ضربت لي مثلا حينما أيقظتني من (سباتي الحياتي) الذي كنت أنظر من خلاله بأن النظام مقتصر على العمل وأداء الواجبات والفروض والوفاء بالالتزامات المتعددة فحسب، لتؤكد لي من خلال هذا الموقف البسيط أن جودة الحياة بأكملها خيط متصل من التوازنات التي لا ينقطع أولها عن آخرها في المأكل والمشرب والتسوق والعمل والنوم والجدال والتعلم والسياحة والمقاضاة والتعاملات، وأن مجمع كل هذا النظام الحياتي يتلخص في كلمة واحدة هي (ولا تسرفوا).
وها نحن اليوم وقد كثرت القصص وفاضت المواقف التي تتحدث عن جودة الحياة بأقل التكاليف ما زلنا نلحظ (أخطبوطات) من المتمسكين والصاملين والمرابطين عند قيم بالية بائسة تقدم الهوى على العقل والجهل على الحكمة والصفاقة على الأناقة، فيبالغون في كل جميل حتى يحيلوه إلى قبيح ويتوارثون كابرا عن كابر عبارات لا تعكس تطورا في منهجية الفكر الحياتي، ولا فهما لفقه الواقع وواقع الحال.
ولأن الوقت ما زال فيه متسع - طالما أن الحياة مستمرة - فإنني أدعو كل ذي لب ممن يحضر مناسبة أو يغشى حدثا يرى فيه تجاوزا وإسرافا في الضيافة والرفادة إلى أن يتحلى بالشجاعة في إظهار امتعاضه من ذلك، بالمصارحة الأنيقة للمضيف، فإن لم يستطع فبإرسال رسالة، وإن تعذر ذلك فبتناول شيء لا يذكر من الطعام المبالغ فيه ثم القيام عنه، وذلك أضعف الإيمان!