تفاعل

في النغم والشعر.. والمعنى

يوسف الدعدي
النغم الموسيقي واختيار الأوزان وترانيم أصوات الحروف في القصيدة الشعرية، هي امتداد لحركة الفكرة داخل بناء النص وجزء أصيل من جوهره الإبداعي، فهو تمثل حركة الإحساس بانبثاق الرؤية الفلسفية للمعاني واستنطاقها من زوايا النفس باعتباره عنصرا موازيا توازي إدراك، مع سير الرؤية الشعرية، فوجوده في القصيدة يمثل عنصرا مهما ومؤشر اكتمال لتصوير المعنى وتمام بيانه، وخلوه منها يترتب عليه فقدان الاستجابة والتلذذ بامتدادات المعنى، مما يستحث المتلقي على إيجاد آليات بديلة يستعيض بها في الحفر في أعماق النص باحثا عن جذور نغمية أو اهتزازات إيحائية من روح الكلمات أو وقع الحروف وتراكيبها البنائية، يسترد بها طاقة البيان الخافتة في النص الشعري، وهذه الاستعاضة تختلف باختلاف قدرات المتلقي على استحضار النغم وإحساسه الموسيقي بالكلمات، من هنا، في تصوري، نشأ التباين والاختلاف في تلقي شعرية قصيدة النثر وما شابهها واعتبارية ماهيتها الشعرية.

فالذين تلقوا هذا الجنس الإبداعي بالقبول وصنفوه من جملة الأشعار التي تمثل مرحلة متطورة من مراحل الشعر التي واكبت متغيرات الزمن ووقع الحياة، هم الفئة النخبوية، في الغالب، الذين تشبعت أرواحهم بمداد الفكر وامتزجت بتنوع القراءات الفلسفية، فاكتسبت قدرة على نفث شيء من مكتسباتها الثقافية على جدار النص وانعكست قراءتهم له حتى يحقق شيئا من التماهي الذوقي والروحي، فيتسقان في الرؤية الإبداعية وينسجمان في التكوين، من هنا في ظني أيضا، نستطيع إن صح هذا التصور أن نستل فروقات التلقي والاختلاف حول هذا العمل. إذن هو اختلاف تأويل واستنطاق لإيحاءات الكلام ووقعه في النفس. وهذا الأمر ليس له معيار ظاهر أو محدد، وإنما هو أمر ذوقي متفاوت.

إن غنائية الشعر العربي بمفهومه الشجني التطريبي تقوم بشكل رئيسي على عنصري الوزن والقافية، دون إغفال لوقع الكلمات وإيحاءات المعاني، مما جعل منهما علامة تميز وتفرد من بين أشعار الأمم، والتخلي عن هذين العنصرين زهد في غير موضعه؛ لأنه ينافي روح الكمال البياني الذي هو مناط القيمة الإبداعية، فالكلمة التي تنتظم في سلك الفكرة لتقيم المعني المراد بيانه، لها طاقة بيانية قصوى تستفد بحسب تركيبها النظمي وإيحاءاتها الرمزية في التصوير الكلامي.

ومن خلال استثمار كل الأساليب والحيل الكلامية، ولأن البيان الإنساني محدود القدرة؛ فإنه يمر بمواطن عجز تفقده القدرة على تمام الإبانة عن كنه الأشياء والإحاطة بها من جميع الجوانب، فتظل بقايا المعاني عالقة في زوايا النفس وأطرافها؛ فلهذا يعمد المبدعون عادة إلى محاكاة الطبيعة واستنطاقها لما يماثل الإحساس بروح المعاني والأفكار المراد بيانها، وإماطة اللثام عنها في أعمالهم، فترى الرسام، مثلا، يمازج بين الألوان ليصل بها إلى ما يحاكي روح الطبيعة ويرمز لعمق الأفكار والأسرار التي حواها العمل من خلال دلالات وإيحاءات تلك الألوان ورمزيتها، لأن الريشة المجردة قد تحاكي الطبيعة في المظهر العام، لكنها لا تستوفي كل ما فيه. فإذا كانت الفنون تتشابه وتتقارب في طبائعها؛ فإن الرسم أقرب تلك الفنون رحما وأشدها التصاقا وملابسة بالشعر وماهيته، فالشعر إنما هو رسم بالكلمات، من هنا يمكن أن نقارب في أسس المسألة فنقول إن خلو الشعر من نغم ظاهر في بنية النص الإيقاعية بمثابة الرسم بألوان الحياد التي تعطي مساحة أوسع في تلقي القراءات الإيحائية للرسمة، ولكنها لا تعطي كامل المتعة الشعورية لها.