الرأي

فيروس الماضي في الذهنية العربية!

أحمد الهلالي
الواقع الإنساني اليوم وما نشاهده في هذا العالم الفسيح من جمال ومن قبح، ومن سلام ومن صراعات دامية يحير العقول، لكن الحيرة تتلاشى وتتبدد حين نتأمل بوعي، وبوعي مجرد لا تؤثر فيه أفكار مسبقة، ولا أجندات معينة، فالتأمل الواعي يضعنا أمام تصور واضح لما يمور في هذا العالم الكبير.

حين نتأمل ثنائية (السلام/ والصراع) نجدها في أبهى صورها متعلقة تعلقا وثيقا بثنائية (الحديث والقديم)، تتماهى معها حتى كأنها ثنائية واحدة، فالمجتمعات الحديثة تعيش حالة السلام مع الذات والآخر، والمجتمعات المتصارعة ما تزال حبيسة الماضي، أفكارها وثقافتها ورؤيتها للكون والحياة كلها منغمسة في ذلك الماضي، منشغلة به عن كل ما سواه، تراه هويتها الحقيقية، والخروج عنه قيد أنملة يعني الزوال، إلى درجة اعتبار كل نقد أو دعوة للحاضر والمستقبل خيانة لا تغتفر، وإلى درجة تطويع الحاضر والمستقبل لخدمة ذلك الماضي العتيد.

جل الأمم اتفقت على أن الماضي (جزء) من هويتها ووجودها وحاضرها، إلا أمتنا الإسلامية، وخاصة العربية تأبى إلا أن يكون الماضي (كل) هويتها ووجودها وحاضرها، لذلك تشكلت الذهنية العربية الحديثة على اعتبار كل ماض أجمل من حاضرنا، وإن كان هذا شعور بشريا صرفا لجهل الإنسان بالمستقبل، لكن الذهنية العربية تغالي فيه إلى درجة اعتبار أمس القريب أفضل من اليوم ومن الغد، والحياة قبل عام أجمل، والجيل السابق أفضل من اللاحق، فتضخم الحنين إلى الماضي من خلال الكثير من الأدبيات المختلفة، فتعليم الماضي أفضل والمثقفون والقادة ولاعبو الكرة والسيارات القديمة والخبز والفلكلورات القديمة وعلماء الدين والشعراء وكل شيء سالف أجمل وأقوى وأذكى وأجود وألذ (وقل ما شئت من أسماء التفضيل) عن كل حديث مهما كانت مميزاته.

هذه النظرة المهووسة بالماضي لم تكن للماديات فقط، ولا للشخصيات الشهيرة، بل للأجيال بشكل عام، فالجيل الحالي في كل عصورنا منبوذ، ليكبر ويمجد آباءه، ويتهم الجيل القادم، وهكذا تدور العجلة؛ لأن الذهنية مبنية على تقديس الماضي، فتنشأ أجيالنا مقموعة ـ غالبا ـ بمطرقة الماضوية، مهزوزة ومهزومة تفتقر إلى الثقة بذاتها، فلا تجد بدا عن البحث عما يحقق ذاتها، وستكون (الماضوية) وسيرة الآباء والأجداد أقرب ملاذ لذلك.

أرهقنا أنفسنا وأبناءنا بعرض الموروثات (البسيطة)، وأنشأنا المهرجانات العملاقة لعرض هذه الأدوات الخشبية والنسيجية والحديدية الصدئة، حتى أصابتنا التخمة والملل، وعلى استحياء يرى البعض ضرورة عرض شيء عن المستقبل، لكن رموز الماضي تظل حاضرة ومهيمنة، ولو بحثنا بشمعة فلن نجد مهرجانا مستقلا للحاضر والمستقبل، يلهم أبناءنا ويضعهم في تصور المشوار الصناعي والتقني العالمي، ذلك أن الماضوية مهيمنة، فلا تكفي المتاحف لعرض (أمتعة القدماء) بل تقام المهرجانات الضخمة لها سنويا دون جدوى.

إننا مرهقون جدا يا قوم بماضينا، فهذا الماضي الذي يراه البعض أس وجودنا، ربما بات أقوى مهددات هذا الوجود، فقد أقعدنا، وأشغلنا عنّا، فنحن على يقين أنه لن يقدم لنا ما نلحق به الركب العالمي، لكننا نتحلق حوله، نأخذ منه القيود، وننبش أعماقه فيغذي خصوماتنا واختلافاتنا، فيزداد صراعنا، ونلقي باللوم على الآخر الذي أعطيناه مبرراته ليبيعنا أسلحة اقتتالنا، ويصطف مع الأقوى ليحظى بثروة المبيعات، فتعيش شعوبهم (الحديثة في سلام) ورغد، وتعيش شعوبنا (القديمة في صراع) وفقر وتخلف، فنبحث في ماضينا، ليخبرنا أن العالم كله يتآمر علينا!

ahmad_helali@