طفولة الحياة وشيطان الشعراء
الثلاثاء / 22 / محرم / 1440 هـ - 20:00 - الثلاثاء 2 أكتوبر 2018 20:00
في العمق السحيق من الذاكرة الإنسانية أشياء كثيرة مخيفة، ولا سيما في طفولة الحياة الأولى وبدائيتها حيث الظلام والطبيعة القاسية والإنسان الذي يعيش في شبه وحدة في بيئة متقزمة مخيفة تصاحبه هوام الأرض وطيور السماء وتحيط به السباع ومخلوقات الله الفطرية، وهو معها يعيش في طور النمو ويراقب ما حوله في خوف وتوجس ورهبة عظيمة، ولا سيما حين تكفهر الطبيعة من حوله وتتحرك بعواصف قاسية وهيجان كبير، يرى الجبال العالية الشامخة ويرى السحاب الذي يكون ظلمات بعضها فوق بعض ويسمع الرعد يزلزل الأرض تحت قدميه ويرى البرق يكاد يخطف بصره، ويقع في مهب الريح العاصفة التي تحدث الرعب في نفسه وهو منتبذ صغير الحجم قليل الحيلة وضعيف القدرة، إلا أنه مختلف عن كل ما حوله من شؤون الطبيعة لأنه المفكر العاقل القادر على النظر والتأمل الحريص على أن يعيش بسلام مع نفسه ومن حوله من مخلوقات الله ويؤثر فيها.
قاده تفكيره إلى ضروب شتى من الحيل لاتقاء شر ما يحيط به، فعبد بعض ما يشاهده في الأرض أو ما يتخيله في السماء وأعطى عقله فسحة من الوقت في أن يتعامل مع الأشياء في حذر شديد، وأن يفسر بعض ظواهر الطبيعة تفسيرا يناسب موقعه منها، حيث بعضها نافع وبعضها ضار، وأن لبعضها قوة فوق قوته، ولم يستطع تفسير كل ما يراه من صور الحياة وقسوة الطبيعة، ومع تعامله الطويل مع الطبيعة خلق نوعا من المسلمات آمن بها واكتنزها عقله وتوارثتها الأجيال وامتلأت بها الذاكرة الشعبية البدائية البسيطة، حتى تحول بعض ما يعتريه إلى معتقدات راسخة في موروثه العقلي وتفكيره، وأصبحت هذه الموروثات تجري على لسانه ويصنفها خياله مع الواقع الذي يتكيف فيه.
ولعل ما حيره في مسيرة تاريخه الطويل شعوره بالعجز عن معرفة كنه الأشياء، وعدم قدرته على تبرير أشياء أخرى يراها وتقع له أو يتصورها ثم لا يجد لها تفسيرا يناسب اندهاشه بها وتفاعله معها سلبا أو إيجابا من جانب، ومن جانب آخر يتعرض بقدراته المحدودة لامتحان يصعب عليه تعليله أو تبريره فيوجد لعجزه مبررا يخلقه ليبعد عن نفسه العجز الذي يحس به ويسيطر عليه.
ولعل ما يخص العرب في بداية حياتهم وما مهروا به وافتخروا هو صناعة الكلام الذي صار تنميقه ظاهرة عربية وقد نشأ أسلافهم الأولون على منثور القول ومنظومه ولم يلبثوا حتى تمايزت قدراتهم اللغوية وارتفعت شؤونهم في الحديث، فكان منهم الخطباء ومنهم الشعراء وعندما اتسق للعرب بيان الكلام وبلاغته تبين لهم اختلاف الكلام وتأثيره وجدانيا لدى المتلقي، وكان الشعراء أول من فتق الكلام وبهر بما ينظم السامعين، وجاؤوا بما لم يألف العامة فسموهم الشعراء.
تكرر من الناس السؤال كيف يقول هؤلاء كلاما مثل كلامنا يختلف تأثيره عما نقول نحن؟ اهتبل الشعراء هذا السؤال وجعلوا الجواب خارجا عن الإنسان إلى غيره من الجان، وأن لكل شاعر شيطانا يلهمه القول ويعينه عليه ويميزه عن أبناء جنسه. جعل الشعراء الشياطين وقدراتهم مساعدا لهم وقوة بجانبهم وكسبوا الجولة، وأصبحت شياطينهم هي السلاح الذي يسيطرون به على عقول الناس. ولا زالت الشياطين تعمل لصالح قوم وتصنع لهم المعجزات وتحارب قوما وتضع لهم الموبقات.
وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن.
Mtenback@
قاده تفكيره إلى ضروب شتى من الحيل لاتقاء شر ما يحيط به، فعبد بعض ما يشاهده في الأرض أو ما يتخيله في السماء وأعطى عقله فسحة من الوقت في أن يتعامل مع الأشياء في حذر شديد، وأن يفسر بعض ظواهر الطبيعة تفسيرا يناسب موقعه منها، حيث بعضها نافع وبعضها ضار، وأن لبعضها قوة فوق قوته، ولم يستطع تفسير كل ما يراه من صور الحياة وقسوة الطبيعة، ومع تعامله الطويل مع الطبيعة خلق نوعا من المسلمات آمن بها واكتنزها عقله وتوارثتها الأجيال وامتلأت بها الذاكرة الشعبية البدائية البسيطة، حتى تحول بعض ما يعتريه إلى معتقدات راسخة في موروثه العقلي وتفكيره، وأصبحت هذه الموروثات تجري على لسانه ويصنفها خياله مع الواقع الذي يتكيف فيه.
ولعل ما حيره في مسيرة تاريخه الطويل شعوره بالعجز عن معرفة كنه الأشياء، وعدم قدرته على تبرير أشياء أخرى يراها وتقع له أو يتصورها ثم لا يجد لها تفسيرا يناسب اندهاشه بها وتفاعله معها سلبا أو إيجابا من جانب، ومن جانب آخر يتعرض بقدراته المحدودة لامتحان يصعب عليه تعليله أو تبريره فيوجد لعجزه مبررا يخلقه ليبعد عن نفسه العجز الذي يحس به ويسيطر عليه.
ولعل ما يخص العرب في بداية حياتهم وما مهروا به وافتخروا هو صناعة الكلام الذي صار تنميقه ظاهرة عربية وقد نشأ أسلافهم الأولون على منثور القول ومنظومه ولم يلبثوا حتى تمايزت قدراتهم اللغوية وارتفعت شؤونهم في الحديث، فكان منهم الخطباء ومنهم الشعراء وعندما اتسق للعرب بيان الكلام وبلاغته تبين لهم اختلاف الكلام وتأثيره وجدانيا لدى المتلقي، وكان الشعراء أول من فتق الكلام وبهر بما ينظم السامعين، وجاؤوا بما لم يألف العامة فسموهم الشعراء.
تكرر من الناس السؤال كيف يقول هؤلاء كلاما مثل كلامنا يختلف تأثيره عما نقول نحن؟ اهتبل الشعراء هذا السؤال وجعلوا الجواب خارجا عن الإنسان إلى غيره من الجان، وأن لكل شاعر شيطانا يلهمه القول ويعينه عليه ويميزه عن أبناء جنسه. جعل الشعراء الشياطين وقدراتهم مساعدا لهم وقوة بجانبهم وكسبوا الجولة، وأصبحت شياطينهم هي السلاح الذي يسيطرون به على عقول الناس. ولا زالت الشياطين تعمل لصالح قوم وتصنع لهم المعجزات وتحارب قوما وتضع لهم الموبقات.
وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن.
Mtenback@