تفاعل

حول الحضارات العربية

عبدالله العولقي
يرى الدكتور زكي نجيب محمود أن الحضارة المصرية على الرغم من امتدادها الزمني الضارب في أعماق التاريخ وعراقتها المدوية بين الباحثين والمؤرخين هي حضارة صحراوية قحة لا تبتعد كثيرا عن حضارات الجزيرة العربية القديمة إلا بماء النيل، مستشهدا بأن هذا النهر تقبع عن يمينه وشماله جغرافيا صحراوية شاسعة تمثل أغلبية الأرض المصرية التي أنتجت هذه الحضارة العظيمة في أعماق الصحراء.

أما الدكتور سعد الصويان فيرى أن الحضارات قديما كانت تنشأ على ضفاف الأنهار، ومن هنا كانت الحضارة السومرية والبابلية والآشورية في العراق والحضارات الفينيقية والآرامية والتدمرية في الشام، والحضارة الفرعونية في مصر، وأن عرب الجزيرة العربية لم يكن لديهم أنهار، وبالتالي لم تتولد لديهم حضارات، ويؤكد الصويان أن الحضارة تنشئ تغييرا جذريا في بنية العقل الثقافي، وهي تسمو بالعقل والذوق، وحتى إن زالت الحضارة واضمحلت فإن هذا التغيير الثقافي يبقى شاهدا على تلك الحضارة، ومن هنا تنشأ نظرة دونية يحملها أصحاب الحضارة النهرية تجاه سكان الصحراء باعتبارهم أقل منهم وعيا وحضارة.

وفي الحقيقة أن عالم الاجتماع ابن خلدون يعد أول من تحدث في التاريخ الإنساني عن الحضارة بالمفهوم العلمي لدرجة أثارت الغيرة والعنصرية عند بعض العلماء الغربيين كعالم الاجتماع الفرنسي غوتيه تجاه عبقرية ابن خلدون، مما حداه إلى تفسير وتحليل عبقريته على أنها نفحة غربية قدمت من الأندلس في أوروبا حتى وصلت إلى روح ابن خلدون الشرقية، معللا رأيه بأن التفكير الإبداعي العظيم الذي أدهشه في كتابات ابن خلدون هو من خصائص العقلية الأوروبية الغربية، ومن المستحيل من وجهة نظره أن تنبثق هذه العبقرية من المجتمع الشرقي!

الدكتورة والباحثة ريتا عوض خلصت إلى أن ابن خلدون هو أول من تحدث أن الحضارة الإنسانية كيان حي، تمر تماما كما يمر به الإنسان بمراحل العمر من ولادة وشباب وهرم ثم موت، وهذا تماما ما خلصت إليه الأبحاث الاجتماعية اليوم في العالم الغربي!

ولو تحدثنا عن ثنائية الحضارة والتكنولوجيا نجد الدكتور مصطفى الفقي يتحدث عن أننا في العصر الحديث نجد العالم الغربي في تنافس عظيم على امتلاك التكنولوجيا الحديثة، ولكنه جميعا يمتلك عقدة النقص تجاه فقره للحضارة التاريخية القديمة، بينما نجد البلاد العربية مثلا تزخر بمقومات الأرض الحضارية القديمة، لكنها تفتقر لصناعة التكنولوجيا التي آثرت أن تكون علاقتها معها بنمطية الاستهلاك فحسب، بل إن ثقل الإرث الحضاري القديم قد أثر سلبا في الذهنية العربية الحديثة وجعلها تعيش في غيبوبة الماضي ولا تنظر إلى آفاق المستقبل، ولكننا نجد اليوم دولتين فقط هما الصين والهند كبلدين تتنافسان على ميزة حضارية مهمة، وهي الجمع بين عراقة التاريخ القديم والتقدم التكنولوجي الحديث.

كما أني لاحظت في بعض البرامج الثقافية بعض المتطفلين على التاريخ والعابثين بأوراقه الذين يرون أن الجزيرة العربية لم تكن أرضا خصبة للحضارات القديمة كون سكانها من البدو الرحل البعيدين عن مقومات الحضارة، متجاهلين الحضارات التي قامت في جنوب الجزيرة العربية كحضارة سبأ وحمير وحضرموت وقتبان وأوسان أو الحضارات التي نشأت شمالها كثمود والأنباط أو في شرقها كحضارة دلمون أو في وسط الجزيرة كمملكة وحضارة كندة الشهيرة، فالحضارات التي قامت على أرض الجزيرة العربية كانت بسبب الجغرافيا الاستراتيجية التي مكنت بلاد العرب من توسط العالم القديم بقاراته الثلاث حتى اكتسبت الأهمية كونها تقع في الممرات البرية والبحرية للتجارة القديمة كطريق اللبان أو طريق البخور أو طريق الحرير وهكذا، ومن هنا فإن هرطقة أمثال هؤلاء الأدعياء على التاريخ تفقدهم مكانتهم وعلمهم ومتابعيهم لأنهم يعيشون خارج أسوار الحقيقة ويرفضون الاعتراف بما هو جلي للعيان!

الجميل في الأمر، أننا في هذه الأيام تفاجئنا الأخبار الدورية باستكشافات أثرية مهمة في جميع مناطق المملكة تعود لحضارات إنسانية متعاقبة، وذلك بفضل النقلة النوعية التي حدثت في المملكة عبر الرؤية الوطنية 2030 والاهتمام العظيم لدى الهيئة الوطنية للسياحة والآثار التي يقودها قيادي وإداري محنك عرف بثقافته الواسعة واطلاعه المكثف حول تاريخ الجزيرة العربية، إنه الأمير سلطان بن سلمان، حفظه الله.

binbakry1@gmail.com