الرأي

كود الطين TM2018

محمد أحمد بابا
تتوفر في طبيعة تضاريسنا السعودية كثير من المساحات الشاسعة التي تزخر بكميات هائلة من التربة الخصبة طينيا، مما يجعلنا في مصاف أوائل القائمة المحتفظة بالترابيات والطمي.

كما أن جبالنا وصخور أراضينا شامخة ووعرة ومتسلسلة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، نعجز حتى عن إحصائها أو الإحاطة بها جغرافيا أو أطلسيا، ومع ذلك لا نتوانى عن إزالة ما يعترض منها رغباتنا المعمارية، إذن فالأدوات جاهزة، طين وحجر وماء ورجال.

اتجهت لهذا المرمى البعيد قليلا لأهرب من الحرارة المحرقة التي يشعر بها من يتابع أسعار الاسمنت والحديد في الآونة الأخيرة، خاصة تلك الشريحة الكبيرة من منعدمي وقليلي الدخل الذين يحفرون بأظافر أناملهم بحثا عن تحقيق أمل لازمهم منذ نعومة تلك الأظفار في بناء منزل يملكونه.

وحيث إن معضلة «الإسكان» لا زالت تراوح محلها، تتقاذفها المؤسسات بين بنوك وشركات تطوير وأراض بيضاء وسمراء وبنفسجية، فإن دوران الحلول ربما يعيد الإنسان لقديم عهد بتجديد تجربة وتحسين أفكار.

مرت عهود طويلة على عموم البسيطة العربية في حواضرها وهم يبنون بيوتهم من الحجر والطين، ويراعون بذلك طبيعة المناخ في مناطقهم، حيث احتفاظ الجدران بدرجات الحرارة المناسبة بحسب فصول السنة وأوقات التغير في الجو.

أظن أنهم كانوا يستخدمون كميات محدودة من الماء في تليين التربة لتصبح طينا صالحا لأن يكون عامل التصاق بين الأحجار التي قطعت وهذبت لتكون حائطا منيعا بقي لقرون طويلة عصيا على الهدم أو السقوط رغم عوامل التعرية، إلا بعوامل إنسانية نادرة لا ترغب في تذكر ماضيها.

هذه الطريقة التي نقرؤها في الكتب ونسمعها من أفواه كبار السن تثبت لنا حرصهم على أن يكونوا متوازنين في استغلالهم للموارد الطبيعية ماء كانت أو طينا أو حجرا، فكل ما يتعاملون معه مما وجدوه في طبيعة أراضيهم يستغلونه ليكون ذا دور فعال في راحتهم ورضا أنفسهم، دون ممارسة لهدر اقتصادي لا يجر إلا الندامة.

ولقد مثلت معامل البناء الطيني والحجري علامات بارزة في أزمنة كان يتسابق أصحاب العضلات المفتولة ومن يشعر في نفسه برضا عن قدراته البدنية أن ينخرط في أعمال البناء والتشييد، لما تتطلبه هذه الحرفة من مجهود بدني مهم.

بالتالي فاعتقادي أن ما يستهلكه الاسمنت من ماء وتعامل واحتياطات فيها الكثير من صرف الأموال، أدى لارتفاع أسعار زادت أضعاف الأضعاف بفعل إنسان السوق الحريص على ما في جيوب المساكين، كل ذلك يدفعنا باتجاه البحث عن البديل.

أظن أننا نستطيع اليوم في ظل حاجتنا الملحة وعجزنا الظاهر عن التحكم في أسعار أرهقتنا وأشغلتنا أن نعود بذاكرتنا للوراء قليلا لنستحضر ذلك (التطيين) بكل مراميه الهندسية والحرفية والاقتصادية، لنتيح لأصحاب التخصص في الهندسة والعمارة مجالا واسعا في ترتيب سلوك بنائي جديد يعتمد في مواده على لوازم أقل سعرا من الاسمنت والحديد في بناء المنازل الخاصة، وربما ينتج عن مثل هذه الفكرة «كود الطين TM2018» في اختصار للطين والماء كبرنامج بناء سعودي مبتكر عن هيئة المهندسين يعتمد من الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس.

لا أعتقد أنه من الصعب أن نستفيد من تجارب الماضي لإصلاحات الحاضر، وليس بالعسير أن نجعل من تراث قديم نظرة معمارية اقتصادية جديدة، ولو على سبيل الاستهلاك وضرورة العيش.

فالطين متوفر، وسيظل زمنا هكذا حتى تشتهر هذه (الفكرة) الفقيرة التي أطرحها وينتبه (هوامير) السوق ويجعلوا ليالينا أطين مما كانت تجاه مشكلة الإسكان، ونعود نفكر في طريقة أقدم منها سائرين في دائرة متواصلة، وربما حينها نتأكد مما كنا نشك فيه أن مشكلة الإسكان مشكلة فكر.

تخيلت بيتا لي من الطين الفاخر، وأسقفه من خشب السنديان، وتهذيب حوائطه من نورة الحجاز وجصها، وله أروقة وأسطح، وبه حديقة، يتوسط بنايات الرخام وعمائر البلوكات الاسمنتية الرائعة الشكل، فتأكدت أنه سيكون بداية (لموضة) مجنونة، وحينها سأتحكم أنا في الأسعار، وينقلب رأيي ظهرا على عقب، من فكرة للمساكين مثلي، إلى انحياز لزعمية حرية الأسواق.

albabamohamad@