الرأي

الجامعات.. زحمة أعمال أم تحقيق آمال؟

عبدالله الأعرج
في رحلة الدراسة والبحث العلمي والمؤتمرات مررت بجامعات كثيرة تتوزع جغرافيا بين مشارق الأرض ومغاربها، وتتنوع أيديولوجيا بين الكلاسيكية المتشددة والديمقراطية المتحررة. مررت بجامعات تفاخر بالتاريخ وأخرى بالطبيعة وثالثة بالأديان ورابعة بالاقتصاد وخامسة بالفنون والآداب.

اختلفت هذه الجامعات في رسائلها التعليمية وأهدافها التدريسية وطرق وتقنيات التعليم، وتباينت أيضا في مسميات المقراات وارتباط الأقسام بالكليات، وتنوعت هذه الجامعات كذلك في طرق البحث ووسائل التقييم ونوع التقويم وطرق الامتحان ومناقشة الرسائل ومسميات الدرجات العلمية.

اختلفت كثيرا حتى خلت أنها لن تلتقي أبدا، وتباعدت حتى ظننت أنها لن تلتقي مجددا، بيد أن محددا هاما جمعها وألف بين قلوبها، ألا وهو المهنية! وحين أتحدث عن المهنية في دار الأكاديميا فللحديث رونق ارتشفه من قدر له أن يمر بخبرة الدراسة في الخارج سواء كان مبتعثا أو دارسا على حسابه الشخصي.

تبدأ قصة المهنية بعد وصول الدارس إلى الجامعة حين يرى بأم عينه ما لا يزيد على خمسة موظفين في إدارة القبول والتسجيل Admissions Office يقومون بكل هدوء بخدمة ما يزيد على 30 ألف طالب في الجامعة ما بين إعداد خطابات قبولهم وبطاقات دراستهم وكشوفاتهم الطبية وكروتهم المكتبية. هؤلاء الخمسة لم يمتلكوا عصى موسى ولا هدهد سليمان، بل حازوا حسن التنظيم وإدارة الوقت وتوزيع المهام والانضباط في الحضور والانصراف والمتابعة من الإدارة، فأبدعوا مع 30 ألفا أو يزيدون!

ويستمر نسيج المهنية الأكاديمية مع الأكاديميين، فالأستاذ الجامعي ذو عمل متعدد، بيد أنه منتظم العنوان معلوم الأركان، يخبرك الأستاذ أنه لن يكون متواجدا بعد 3 أشهر من اليوم، ويعتذر منك لأن لديه مؤتمرا علميا في بلد ما من بلدان ما وراء البحار Overseas Conference. ويبهرك الأستاذ الجامعي حينما يكون لك معه موعد مكتبي خصص لك فيه خمس دقائق فقط لا تكاد تنقضي حتى تراه يطلب منك المغادرة لأن باب مكتبه يقرعه صاحب موعد آخر. ويأسرك الأستاذ الجامعي حينما يدعوك مع زملائك لمنزله على ملتقى غداء بسيط وميسور Potluck لا مكان فيه للتكلف ولا مجال فيه للمباهاة!

ثم يأتي اليوم الموعود الذي ترتعد فيه فرائصك سواء كان يوم الامتحان الفصلي أو مناقشة رسالتك العلمية، فتبلغ المهنية ذروتها وتصل البساطة إلى منتهاها، فالممتحن في الغالب لا يرى في الامتحان أكثر من تأكده من أن الطالب قد ألم بأهداف المقرر Course Objectives، ولا سيما أن طرق التقييم متعددة multiple- assessment تصل إلى حد الاختبار بكتاب مفتوح أو أسئلة استنتاجية معلومة منذ بداية العام أو مشروع مرحلي يؤديه الرفاق طوال العام.

وحين تكون جلسة الدفاع عن رسالة الدكتوراه defense فإن الطالب في أوروبا غالبا لا يقضي أكثر من ساعة ونصف الساعة منفردا مع شخصين يبلغانه في الغالب في بداية اللقاء أنه قد اجتاز المناقشة وأن الهدف من الجلسة تطوير وتنقيح بعض أجزائها.

ثم يأتي حفل التخرج Graduation Ceremony وأنت في الغربة، فتشعر أنك حاضر بآل بيتك أجمعين! فهنالك شركات لتصوير يومك الذي ليس كمثله يوم، وهنالك موسيقى ورفاق وصور وتذكار أعدت خصيصا لهذا الحدث. ثم يأتي المساء لتجد أن مشرفك الدراسي ورفاق الغربة من الصين إلى بنين قد أعدوا لك وليمة في مطعم مجاور لم تكلف أحدهم سوى ثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيها متنافسين!

مهنية تتناثر هنا وهناك وبساطة وهدوء يكسوان كل شبر من الجامعة من أول يوم إلى آخره! لا أقول إنه خال كل الخلو من بعض العقبات بيد أنها سهلة المنال سريعة الحل بالغة الأثر الإيجابي في نفس الطالب حينما يرى أنه يحظى بهذا الاهتمام وتلك العناية.

لنتذكر سويا يا سادة ونحن نقف سويا على أعتاب هذا العصر المجيد أن الجامعات مرحلة تطوير فكري قيمي إيجابي، وأن هذا النبوغ الفكري لا يتأتى والبعض ما زال ينظر إلى الجامعة كمكان تكدس للمعاملات وتأجيل للقرارات وتسويف للإجراءات، ولن يتأتى أيضا وبعض الأساتذة الجامعيين ما زال يتعامل مع الأجيال الجديدة الواعدة من منطلق أستاذ وطالب فحسب، فلكل زمان دولة ورجال، ولن يكون الزمان أفضل مما هو عليه الآن، فلتكن المهنية خطنا الأول والأوسط والأخير، وسنجني بإذن الله كل خير.