تفاعل

معضلة الرأي المبدئي

فهد عبدالله
من المواقف الطريفة والمليئة بالتأمل التي تحدث معي وكذلك ألمحها في مشاهد متعددة لدى الآخرين أن تتبنى رأيا تجاه موضوع معين، خاصة تلك المواضيع المركبة ومتعددة التفاصيل، وبعد فترة قد تقصر أو تطول تجد نفسك وقد تبنيت رأيا آخر، وهذا أمر مهم جدا في شكله ومضمونه من حيث أن التغيير سنة طبيعية وثابتة في الكون، وأيضا من حيث أهمية منهجية تبني رأي واثق وصحيح دون الاستعجال في زمن تكوين الرأي أو الاندفاع من خلال زاوية مكانية واحدة.

من خلال كثير من المشاهدات والحوارات التي يتم تناولها هنا وهناك، وكذلك تداول صناعة الرأي والأحكام المستعجلة والبطيئة أجدني في حالة من التيه المؤقت عندما أشاهد التجاوز التلقائي للمطب الفكري المتكرر في تبني الآراء المبدئية حول الأمور التي يتم نقاشها، خاصة تلك المواضيع ذات الجدة في الطرح، فتباغتني أسئلة عدة في مثل هذه المواقف، أجوبتها في محتوى السؤال مثل: هل لا بد أن يكون للإنسان رأي في كل مسألة؟ وأليس من أعراض آفة السطحية أن تتم مناقشة رأي دون سابق معرفة أو بوجود معرفة بسيطة؟! والأمور المعقدة التي تتداخل فيها جوانب متعددة أليس الولوج فيها يجعل من وقوفك كأنه على أرض رخوة يسهل فيها التعثر؟

في عصر التعدد الهائل لمصادر المعرفة وتنوعها بالآراء المختلفة والمتناقضة، أليس التحري للمعلومة الصحيحة من مصادرها الثابتة فرض عين حتى لا يتعثر المرء في معضلة الرأي المبدئي؟ وتجاوزا، إن كان لك رأي مبدئي في قضية ما، أيعقل أن تتعامل معه كأنه فصل الختام في تلك القضية؟ أليست حداثة الرأي دافعا لعدم التبني السريع له؟ وهل إذا تبين لك رأي جديد تغلب منطقه على رأيك المبدئي هل ستبقى حينها متشبثا به؟

كل هذه الأسئلة وغيرها تؤكد أن هشاشة الرأي نتيجة شبه حتمية لأي رأي مبدئي لموضوع بنيته متداخلة ومعقدة بدون معرفة متكاملة أو لم تعتمل فيه دلالات الصحة في طريقة تلقي المعلومة.

كثير من العبث الفكري والآراء المتناقضة والتسطيح للمواضيع الكبيرة وإصدار الأحكام النهائية ووجود معتقدات باطلة وأفكار خارج سياق المعقول أعتقد أن جزءا من مسرحها وكواليسها يعود لوجود شيء من معطيات معضلة الرأي المبدئي.

هذه الأسئلة وغيرها من لحظات الوقوف المتكرر عند مثل هذه المطبات الفكرية ليست تحجيما للاستزادة من نهم المعرفة وتلاقح الفكر من خلال الحوار أو التثقف والتعلم، وإنما هي لافتة تنبيه تحذر من تجاوز السرعة المحددة بالقرب من مطبات الطريق.

ومن يتأمل بعمق سردية الرأي وتغييره من خلال مذكرته الشخصية أو مذكرات الآخرين ويقف كثيرا عند هذا التأمل سيجد ملامح جديدة تتشكل في شخصيته ورؤيته، أهمها حالة النهم الجديدة لرؤية الشيء المختلف والهدوء في تلقي الأفكار الجديدة وعدم الاكتراث بالعاطفة التي ترتبط برأي في سياق غير منطقي، والهدوء بشكل عام وعدم التثريب أبدا لأي فكرة مختلفة مهما كان وزنها وحجمها، فضلا عن تقمص زوايا النظر المختلفة تجاه الرأي الجديد بغية فهمه بشكل شامل ومعرفة دوافعه وأسبابه التي أظهرته للوجود.