تفاعل

للأيام تقلبات

جمعني حديث شجي شائق مع أخ وصديق، وهو في الحقيقة رجل صاحب رأي وحكمة، فطار الحديث عبر الأثير، فإذا بنا نخوض في تقلبات الأيام وأن الدنيا لا تستقر على حال أبدا، فمرة تكون مع قوم تعطيهم كل مباهجها وزخرفها حتى إذا اطمأنوا لها وبها فاجأتهم بما لم يكن في حسابهم، وتحولت إلى غيرهم، وهكذا دواليك ترفع أقواما وتضع آخرين.

تذكرت حينها أنني عندما كنت شابا فتيا عملت في خدمة الحجيج بمكة، ولقد مر علي أصناف من البشر فرأيت بعض الجنسيات لديها من الغنى بحيث يلبس الواحد منهم ملابس تقدر بآلاف الريالات ويتمتعون بالثراء لدرجة أنهم لم يحسبوا حسابا لتقلبات الدهر ونسوا من فرط النعيم تحولات الأيام، وظنوا أن مظاهر الغنى واليسر ستبقى معهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا من خدع الشيطان لو فقه الناس ذلك ومرت الأيام، فإذا بها تقلب لهم ظهر المجن وتظهر لهم الوجه الحقيقي لها وتترجم لهم بالحرف معنى كلمة «دنيا» ترجمة حسية مادية، فعضهم الفقر بنابه وجثم عليهم بكلكله ومشى عليهم الدهر بوطأته حتى أرهقهم وجعلهم عبرة للناس، فأصبحوا بعد أن كانوا يعطون الصدقات والهبات يتوسلون إلى من كانوا يعولونهم علهم يجدون منهم التفاتة رحمة، فغدوا عالة على غيرهم وانقلب الحال إلى النقيض تماما، فأصبح العزيز ذليلا والذليل عزيزا. إنها سنة الله في الكون فالدنيا لا يمكن أن تدوم على حال ولو دامت لما سميت دنيا.

أدركت حينها أن الإنسان يجب عليه أن لا يغتر بما لديه من مال وجاه مهما بلغ فالأيام دول، ولا يغر بها إلا جاهل قد جانبه التوفيق والصواب، وتذكرت قول الشاعر:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

وأظن أن الكل يوافقني على هذا الرأي، ومن أراد دليلا ولو أننا لسنا بحاجة إلى الدليل، الذي لا يحسب لتقلبات الأيام حسابا ويكون على أهبة الاستعداد لمفاجآت الدهر عليه أن يتحمل عواقب الأمور ونظرة فاحصة بعقل راجح وقلب واع إلى ما حولنا من بلدان ودول كانت ترفل في العز والنعيم فأصبح حالها يرثى لها، وكم تحدثنا عن هذا الأمر ولأنه من الأهمية بمكان فسوف نتحدث مرارا وتكرارا، لأن ربنا المطلع على خفايا النفس البشرية قد أمرنا أن نتواصى بالصبر والحق، وهذا هو واجب كل مسلم تجاه أخيه المسلم، والمؤمن مرآة أخيه.

إن الاغترار بالدنيا والاطمئنان لها يعتبر من سوء التدبير، فالإنسان الكيس الفطن الأريب هو من يعتبر بغيره قبل أن يكون هو عبرة لغيره، وأما الذي يعيش في القصور العاجية والأحلام الوردية والركون إلى حياة التنعم والدعة ويتلاعب به الشيطان ويمد له حبال الآمال ويضحك ملء فيه فأخشى أن يكون من الغافلين. إننا ننادي دائما ونحذر من الانغماس في النعم والتلاعب بها إلى حد البطر والتبذير والإسراف، بل والسخرية في بعض الأحيان وفي بعض المجتمعات من نعم الله، ويجب ألا يغتر الإنسان بحلم الله عليه ويقول في نفسه: أنا أعبد الله وأتصدق وأصلي وآتي بواجباتي تجاه ربي وإلى آخر تلك الأماني والأحلام التي يزخرفها الشيطان ليخدع بها البعض فلا يدري الإنسان هل قبل الله عمله أم رده عليه.

عمر بن الخطاب قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما حين أرسله لفتح بلاد فارس «يا سعد لا يغرنك أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته»، فالحذر الحذر من التمادي، فقد قال رسول الله صلى عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها وقال: يا عائشة أكرمي كريمك فإنها ما نفرت عن قوم فعادت إليهم. رواه ابن ماجه.

فليضع كل منا هذا الحديث من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمام عينيه ولنعلمه لأبنائنا لكيلا يعصرنا الندم، والذي لن يفيد إذا وقع المحظور.