جيلنا أم غرائب الإبل؟

كلما ثار غبار معركة اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية، يقف أبناء هذا الجيل بدفوعاتهم بأنهم إنما حاكوا واقع المجتمع بإنتاجه وأنّهم لم يكونوا غرباء عنه بتفكيرهم ولا طوباويين في نظرتهم. وكلما مر الزمن يثبت أننا لم نتمكن من التكيف على شمولية وعمق ما نريد فعله وما نستطيع كذلك لنصبح بعدها أمة من ضجيج ولغو لم تترك مجالاً لحوار هادئ أو صمت متأمل بل على العكس أصبحنا نتكيف على سماع محترفي التنظير الذين يتقنون براعة التبرير حتى ازدان في أعيننا الخراب

كلما ثار غبار معركة اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية، يقف أبناء هذا الجيل بدفوعاتهم بأنهم إنما حاكوا واقع المجتمع بإنتاجه وأنّهم لم يكونوا غرباء عنه بتفكيرهم ولا طوباويين في نظرتهم. وكلما مر الزمن يثبت أننا لم نتمكن من التكيف على شمولية وعمق ما نريد فعله وما نستطيع كذلك لنصبح بعدها أمة من ضجيج ولغو لم تترك مجالاً لحوار هادئ أو صمت متأمل بل على العكس أصبحنا نتكيف على سماع محترفي التنظير الذين يتقنون براعة التبرير حتى ازدان في أعيننا الخراب، وتكيفنا على ألا نرفض من أعماقنا ما نسمعه ونراه من تمزق وهوان وتدمير وصراع. وما حالنا اليوم كأمة وكمجتمعات عربية وما آلت إليه إلا صورة بليغة عن ذلك، وهو ما يزيد من وتيرة الجدل القائم في كيفية التعبير عنه. هل ازدادت تسعيرة الكلمة أم نقصت؟، وهل يؤثر الجو العام على التعاطي مع الحالة بأشكالها فأصبحت الكلمة سلعة تباع وتشترى؟ الواقع أنه اخترعت للساحة الثقافية مثلاً، شروط تتناسب مع غريزة هذا العصر الذي سطح كل شيء، فاستبدلت الموهبة والأصالة بالفكرة السهلة والعلاقات الشخصية، وبذلك مسخ الإبداع الذي هو عصارة الفكر وترجمة لأنين الروح. استباحة الكلمة وتوظيفها الاستهلاكي والمجاني حدا بالبعض أن يخترعوا أصنافاً أخرى تتوالد وتنمو كالفطر تبتعد كل البعد عن شروط الإبداع وأدواته الصعبة، بل يطمسونها ويستبدلونها بأدواتهم السهلة، لتختصر كل الأزمات في أزمة واحدة صُدعنا بها وتعارفنا عليها بحالة الأزمة. والأزمة الكبرى في رؤية كل منا للآخر، فالمثقف يرى أنّ المجتمع لا يتقبل الرأي الآخر ولا يحب أن يستمع إلى أي صوت ناقد أو فكرة مخالفة للسائد، والمجتمع من وجهة نظره لا يعرف ذاته كما ينبغي فهو أسير لنظرة واحدة ترى فيه المجتمع الكامل الفاضل وتتعامى هذه النظرة عمداً عما يسود شرائح المجتمع من تقلبات وتغيرات قسرية وطوعية فرضتها موجات تغيير اقتصادية وسياسية كونية. وعلى رأس هؤلاء تقف السلطة بنفوذها ومالها تمارس سلطتها الأبوية باسم المجتمع، الدين، العرف، والشعارات الدعائية لفرض وقمع أي محاولة للقفز والبحث عن آفاق أرحب. هذا الصراع غير المنتهي وإن تنوعت تفاصيله على مر الزمن وإن أثار ما أثار من غبار فهو ليس شراً كله لأنه ربما كان مؤشراً صحياً في بعض حالاته وقادحاً لشرارة الإبداع أحياناً وللفوضى في أحايين كثيرة. ولكن الشر في أن الانشغال بالمعركة والجدل يسر الأمر لكل من يطمحون في النجومية، ولكنهم يفتقرون إلى البريق والسر الإلهي، فما كان عليهم سوى أن يستنجدوا بتوهج حناجر السماسرة ليصنعوا من تجاربهم الفقيرة ملحمة إغريقية يطلقونها في سماء الشهرة ليستقبلها البعض بالتهليل والمديح، ويتبرأ البعض الآخر من هذا الإنتاج الذي يرى في ثناياه تشويهاً لصورته الحقيقية ولنقائها وطهارتها، ويبتعد آخرون يرون أن هذا الإنتاج ينتهك خصوصية المجتمع بل ربما سخر بالثوابت من أخلاق وأعراف مجتمعية والتي لا تقبل الجدال والمساومة لتتحول التجربة بعد حين إلى فقاعات تكسرها الأمواج المتلاطمة وتبددها على الصخور ويسقط النجم الذي كان واعداً من علِ. وبالنظر قليلاً إلى الوراء نجد أنه بالرغم من أن فترة السبعينات والثمانينات الصاخبة من القرن الماضي كانت مرحلة مهمة في بروز مجموعة من المبدعين في مجالات عديدة، إلا أنهم ظلوا يدورون في فلك من قبلهم مأخوذين بسحر إبداعهم. كما أنهم لم تسلط عليهم أقلام النقد ولم يأخذوا نصيبهم بالتعريف الكافي لمنجزهم الإبداعي، أو لم يصمدوا وذلك لظروف كثيرة. أما تجربة التسعينات فكانت تجربة مبدعين مطحونين بصورة غير مفهومة، ولذا فقد كان ظهور ذاك الجيل مؤلماً وقاسياً ارتبط عنده النزوع نحو الإبداع في أي حقل بالبؤس والعدم والتشرد الدائم، فقد كان كتاب ذلك الجيل ينظرون إلى الكون والعالم والأشياء عبر منظار مهشم غائم وضبابي حيث تتشظى الأشياء والمرئيات والقيم، فتبدو الصور هلامية وخادعة. لم يكن من السهل أمام أحدهم أن يصرخ بحرية أو أن يحاول تحرير ذاته، فكان كل ما حوله صارماً واستبدادياً. لذا بدت المحاولات أسيرة القمع المأساوي، وبالتالي ظهرت الندوب والتشويهات المضللة لكثير من المعاني على أغلب الإنتاج الذي تميز بمحاولة التنوع في الصياغات والأساليب. لم تستطع أحجية جيل يلغي جيلاً آخر، وجيل يهمش ويعتم على إبداعات وإنجازات جيل آخر، أن تؤثر على إبداعات جيل الستينيات مثلاً، فلا تطور طبيعي ولا خبرات أدبية وسياسية ومعرفية متراكمة باستمرار، ولا اندفاعات متجددة ولا ثورة حقيقية تنسف المفاهيم التي رسخها جيل الرواد الذين انشغل غيرهم بأساطيره ورموزه وإسقاطاته التاريخية على واقعنا المتردي، وتهويماته خارج الزمن. وهكذا تربع أولئك الرواد على عرش الكبار عن جدارة لأنّ ما قدموه هو مجموعة التجارب الفعلية والملهمة على صعيد الأسلوب والحداثة والتجديد والتجريب ميزت عطاءهم عن غيره وما زالت في كافة المجالات. أما ثقل المسؤولية فأصبح ينوء عن حمله هذا الجيل بانسحابه السلبي وتوجيه سهام النقد لغيره بالإقصاء والتهميش، وغيرها من تبريرات عقيمة ومتحجرة. فغيرنا ظهروا واجترحوا المفاهيم والحساسية المعرفية المغايرة، صمدوا ولم نصمد، صبروا وتعجلنا قطف الثمرات، فاستحقوا التقويم واستحققنا التعتيم.