الولد الصالح.. من رحمة الله بعباده
يحكى أن رجلا مُسنّا صدمته سيارة في أحد الشوارع فسقط مغشيا عليه على الرصيف. وبعدما نقلته السيارة المسعفة إلى أقرب مستشفى..
الاحد / 19 / محرم / 1437 هـ - 14:00 - الاحد 1 نوفمبر 2015 14:00
يحكى أن رجلا مُسنّا صدمته سيارة في أحد الشوارع فسقط مغشيا عليه على الرصيف. وبعدما نقلته السيارة المسعفة إلى أقرب مستشفى.. استطاعت الممرضة التي استقبلت الحالة أن تقرأ اسما ورقم هاتف بصعوبة بالغة، فقد كان كل شيء مختلطا بدم العجوز. وبعثت على الفور برسالة إلى الاسم الذي توصلت إليه مفادها: «احضر فورا».. وحينما وصل الشاب إلى المستشفى وتعرفت عليه الممرضة.. قادته إلى السرير الذي يرقد عليه العجوز.. وقالت له: ولدك هنا.. فمد العجوز يده وقد غطت كمامة الأكسجين وجهه وهو تحت تأثير المهدئات.. فأخذها الشاب وضمها إلى صدره وهو مطبق عليها بكلتا يديه.. وهو يفرغ عليها كل ما استودع الله صدره.. من عطف وحنان.. وبقي على هذه الحال أربع ساعات متواصلة.. وكانت الممرضة بين الحين والآخر تقترح على الشاب الحنون أن يستريح قليلا، أو يغادر الغرفة ليتمشى بعض الوقت، فكان في كل مرة يعتذر منها بأدب ولطف، بينما يد العجوز ترقد مستقرة على صدره وهو ممسك بها بيديه. وعند الفجر.. مات العجوز.. فقال الشاب سائلا الممرضة: من هو هذا العجوز المتوفى؟! فأجابت في دهشة وذهول: إنه أبوك! فقال الشاب: لا، إنه ليس أبي، بل إنني لم أره قبل اليوم في حياتي.. فسألته الممرضة المصدومة: ولماذا لم تقل ذلك عندما اصطحبتك إلى سريره أول مرة؟! فقال الشاب الذي يقطر نبلا وحنانا ويفيض عطفا: لقد أدركت أن هناك شيئا خطأ قد حدث.. بعدما تأكدت من النظرة الأولى أنه ليس أبي.. ولكنني عرفت من عينيه، التي لا ترى شيئا أنه في حاجة إلى ابنه.. وكانت يده وسيلة التواصل الوحيدة التي قد تجمعه به في لحظاته الأخيرة.. فمددت له يدي وأطبقت على يده، وضممتها إلى صدري ليعلم أن قلبي وراء يدي.. لأني أردت أن يرحل عن هذا العالم وهو معتقد في داخله أن أحدا ما يهتم به حتى لحظاته الأخيرة.. ليفارق هذه الدنيا وهو قرير العين مطمئن البال، تلفُّه الراحة والرضا.. وسبحان الله فقد كشف الخطأ في الاتصال بهذا الشاب، أنه رجل على استعداد لتلبية النداء دون أن يضيع وقتا في التردد والسؤال.. فتلك أساليب المتهربين من التجاوب السريع. ولا يوضح الراوي للقصة، هل لهذا الشاب أب على قيد الحياة.. فإن كان له ذلك الأب وضم إلى صدره يدا غير يد أبيه، بكل هذا الحنان والعطف، فإنه ولد أحسن أبوه تربيته، وإن لم يكن أبوه على قيد الحياة.. فقد يعني هذا أنه إما كان شديد البرِّ بأبيه، أو كان مقصرا وجد في يد الأب الممتدة إليه تعويضا عن ذلك التقصير. ولكن يبقى ذلك السؤال الذي لا يمكن طرحه: هل العجوز الذي مات له أصلا ولد؟ وإذا كان له ولد واحد فقد مات وغادر الدنيا وهو يشعر أن له ولدين.. وإن لم يكن له في الأصل ولد.. فقد وُهِب في الختام واحدا ملأ صدره راحة ورضا، فرحل عن الدنيا ممتنا غير شاك ولا ساخط. أما الأسئلة الكثيرة التي أستطيع أن أطرحها وأطمع في أن أتلقى عليها كثيرا من الإجابات.. فهي: 1. ما شعور ابن - أيّ ابن - يقرأ هذا المقال وقد مرّ زمن لم ير فيه أباه أو أمه بالطبع؟! 2. هل هناك اليوم من ولد قادر على أن يحتضن كف أبيه وهو على فراش الموت أكثر من أربع ساعات وهو يضمُّها إلى صدره؟! 3. ما هو مقياس سرعة تلبية النداء لدى الأبناء؟ وهل هو متفاوت بينهم؟ ومعظم هذه الإجابات تأتي معتمدة على عمق العلاقة بين الأب وأولاده.. وبين الأولاد وأبويهم؟ والآباء قبل الأبناء يعرفون أن العبارة الشهيرة التي كانت تدرَّس في الكتاتيب القديمة.. «من زرع حصد» بالطبع بعد «من جد وجد»، هي النبراس الذي كان يرتسم أمام أعينهم ويتجسد لهم شاخصا في كل تصرف أو عمل.. ولما كبروا قرأوا في المراحل التالية: من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس إن من رحمة ربك بعباده، ومن خير عطاياه الولد الصالح.. وهو من موجبات الرحمة حين يدعو لأبيه.. تماما كما العلم النافع الذي يُعمل به، أو الصدقة الجارية.. وهى أعمال وأفعال لا تنقطع مدى الدهر.. حتى بعد موت ابن آدم.. وفي سورة الكهف التي نتلوها على الأقل مرة كل جمعة.. وفي الآيتين الثمانين والحادية والثمانين (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانا وَكُفْرا {*} فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرا مِّنْهُ زَكَاة وَأَقْرَبَ رُحْما)، والغلام هذا كما في حديث مسلم، طُبِع كافرا ولو عاش لأرهقهما ذلك لمحبتهما له فإنهما يتبعانه في ذلك. وقد أبدلهما ربهما خيرا من الغلام وأقرب رُحما.. فرزقهما بنتا تزوجت نبيا وولدت نبيا فهدى الله به أمّة كاملة. وقد نرى في تأمل هذا الكلام ما يؤكد أن الله لا تقتصر منحته على الذكور، وبالطبع يُفهم من هذه الآية أن البنت التي أبدلها الله بالغلام كانت خيرا زكاة وأقرب رحمة وبرا بوالديها منه. وفي كل خير إن شاء الله. وكم أرجو أن يسارع كل الأبناء إلى جوار والديهم ليكونوا إلى جانبهم في السراء والضراء، فإن خير الأعمال خواتيمها. (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).