جامعة جازان في ظل غياب الرقابة!
يحكى أن جزيرة من جزر المعمورة كان يقطنها قوم في منطقة شبه معزولة، خاضعة لإرادة قائد أشرم مقطوع الأنف ولا يخاطبه سوى رئيس الجند ومن وراء حجاب! وذات يوم شاهده رئيس الجند فجأة على حقيقته، فضرب بيده على فمه ساخرا يضحك منه، غضب القائد وأمر بقطع أنفه ثم أعقبها بأن أصدر أمرا بأن اقطعوا أنوف المواليد الجدد، واجعلوا حالهم من حالنا فلا يستطيع أحد أن يضحك علينا وفي كل دار أشرم! مضى دهر وصار جميع سكان الجزيرة على نفس الوتيرة! وأضحى كل مولود يولد يقطع أنفه ولم يعد أحد يعيب ذلك، وصار أصلا ثابتا فيهم وما عداه شاذ
الخميس / 16 / محرم / 1437 هـ - 14:00 - الخميس 29 أكتوبر 2015 14:00
يحكى أن جزيرة من جزر المعمورة كان يقطنها قوم في منطقة شبه معزولة، خاضعة لإرادة قائد أشرم مقطوع الأنف ولا يخاطبه سوى رئيس الجند ومن وراء حجاب! وذات يوم شاهده رئيس الجند فجأة على حقيقته، فضرب بيده على فمه ساخرا يضحك منه، غضب القائد وأمر بقطع أنفه ثم أعقبها بأن أصدر أمرا بأن اقطعوا أنوف المواليد الجدد، واجعلوا حالهم من حالنا فلا يستطيع أحد أن يضحك علينا وفي كل دار أشرم! مضى دهر وصار جميع سكان الجزيرة على نفس الوتيرة! وأضحى كل مولود يولد يقطع أنفه ولم يعد أحد يعيب ذلك، وصار أصلا ثابتا فيهم وما عداه شاذ. وفي عشية من العشايا هاجت عاصفة بالبحار القريبة منهم ودلفت بقارب صيد إليهم، نزل الصياد من القارب ومضى باتجاه الجزيرة، فوصل إلى هؤلاء القوم وإذا هم كلهم مقطعو الأنوف! جلس معهم، التفت إليهم والتفتوا إليه باستغراب! الصياد يشاهد قوما ما سبق أن شاهد مثلهم وهم كذلك، مضت دقائق، ثم بعدها قام أصحاب الجزيرة وضربوا بأيديهم على أفواههم ساخرين يضحكون منه يقولون: شاهدوا معه أنف! ما أرذله وما أقبح شكله! يا ترى كيف لهذا الزائر المسكين أن يقنع أبناء هذه الجزيرة بأن ما عملوه في ذواتهم خطأ ومخالف لكل المقاييس الطبيعية والمسلمات البديهية؟ وكيف لنا أن نفهمهم بأن أهم مقياس للجمال والبهاء والأنفة هو ما قاموا بالعبث فيه وقطعه ورميه في النفايات؟ أليس المفروض أن من يسخر من الآخر هو الزائر لا هم؟ وأنه الجميل وهم القبيحون؟ هو الأصل وهم البدل المزيف؟ يا الله ما أسوأ أن تجتمع الجهالة والقبح على قوم في آن واحد! إن حالة جامعة جازان شبيهة بحالة هذه الجزيرة التي انقلبت فيها كل البدهيات للقياس والحكم على الأشياء! أصبح الأصل معابا والطارئ الممجوج أصلا! المريض يعيب الصحيح والسقيم يدعو بالشفاء للمعافى! لا يخطر بذهني أن أحدا منكم سيصدق أن طلاب الدراسات العليا في جازان هم من يرأس الأساتذة والدكاترة السعوديين ويتبوؤون المناصب العلمية والأكاديمية! ولن يستوعب أكاديميو الجامعات الأخرى هول الصدمة عندما يعلمون بأن مجلس كلية الحاسب بجامعة جازان كل رؤساء أقسامه الأعضاء طلاب دراسات عليا وأمين المجلس طالب معيد! أو أن عميد كلية إدارة الأعمال تخصصه في واد وتخصصات العمادة التي يرأسها في واد آخر! أو أن طالبة بدرجة محاضر أصبحت بين ليلة وضحاها عميدة لكلية الداير! ولكي لا يقال إني أرمي الكلام جزافا وعلى عواهنه فهذه عينة على سبيل المثال لا الحصر لما سبق أن أشرت إليه، أقسام هندسة الشبكات والأنظمة ونظم المعلومات الإدارية وعلوم الحاسب والتربية الفنية بكلية التربية والعلوم الاجتماعية بكلية الآداب ونظم المعلومات وقسم الفيزياء بصامطة وقسم الرياضيات بالداير وقسم رياض الأطفال بالداير ومشرف خدمة المجتمع بكلية المجتمع ووكيل شؤون المكتبات ووكيل كلية إدارة الأعمال لخدمة المجتمع ووكيلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية ووكيلة عمادة القبول والتسجيل لشطر الطالبات..إلخ، كل هذه المناصب والأقسام والتخصصات المذكورة يشغرها طلاب دراسات عليا بدرجة محاضر! وكلها مخالفة لنظام الخدمة المدنية والتعليم العالي! وليس هذا فقط بل إن بعضهم يرأس قسما ليس من تخصصه! وبعضهم لم يصدر له حتى الآن قرار بتكليفه أو تعيينه! بل وصل الأمر إلى أن وجد موظف بالمرتبة الخامسة يوقع عن وكيل كلية الحاسب بالمرتبة الـ12 في محاضر مجالس الكلية! لماذا يحدث كل هذا؟ هذا السؤال لن يجد أي عاقل جوابا له سوى أن الجامعة نحّت النظام ولم تعد تجعله مرجعا متبعا في التعيينات داخل أروقتها وأصبحت المحسوبية والمناطقية هي المرجع، وبـ(المزاج) أصبح كله زي بعضه كما يقال، فلا تمانع الجامعة أن الممرض يشتغل عمل الطبيب والإداري مكان الأكاديمي، والمترجم يرأس عمادة، والمعيد يرأس مجلس قسم فيه أكاديميون بدرجة بروفيسور! وكل هذه العجائب والغرائب حدت بدكتور سعودي أن قال: لو مؤسسة مقاولات بسيطة تعمل ما يعمله قيادات الجامعة لأفلست من أول شهر! ولم يتوقف هذا المسلسل عند هذا الحد! بل وصل إلى رأس الهرم أن يقول لأحد الدكاترة النبلاء: أشغلتونا بالنظام! ونصحه بالابتعاد عنه، وزجره عن رصد المخالفات في الجامعة لأن هذه لقافة على حد تعبيره! ياللعجب! إني أسأل نفسي وإياه كيف له أن يعرف المصيب من المخطئ، والمخلص من المفرط، وما هو معيار قياس الكفاءة لديه إذا تمت تنحية النظام؟ كيف يعرف الآن الحق من الباطل؟ بالمزاج أم بالشكل أم بالرهط الذين وراءك؟ أم إن حاله قريب بالقياس من حال تلك العشيرة التي سئلت أين هو عاقلكم يا قوم؟ قالوا هذا المربوط بالشجرة! أخي القارئ ماذا لو علمت مثلا أن السائق الذي ينقل صغارك إلى المدرسة لا يلتزم بقوانين المرور ويخالف أنظمته ويسرع ويقطع الإشارة! هل ستستأمنه على أبنائك وتبقيهم تحت قيادة هذا السائق؟ بكل تأكيد لا، وكذلك في التعليم كيف سيكون حال أبنائكم ومن يقودون أكبر قافلة لتعليم المجتمع هم بهذا الحال الفوضوي! كيف سيستقبل المجتمع أفواجا من الأطباء والمهندسين والإداريين والفنيين والمعلمين والضباط والجنود، والقائمون على تخريجهم كما ترون يأنفون من الالتزام بالقانون وأنظمته؟ هل يا ترى سيكون كل هؤلاء ملتزمين بالقانون وموقنين بأن الالتزام به هو مقياس الأمانة وهم تخرجوا في جامعة تعمل عكس ذلك؟ إن تجاوز القانون آفة ميكروبية معدية تتفشى بين الأفراد حتى تصيب الكل وبالتالي يمرض المجتمع ويتهدد نسق سلوكه السليم المنتظم، لأن القانون هو العرف الذي يميز به الصحيح من الخاطئ وهو الخط الفاصل بين حياة الإنسان وحياة الحيوان، به تتحقق المآلات و تضبط الحقوق وتنظم المناشط وتعمر الديار ...وما إن يزول هذا الفاصل المنظم حتى ينجرف المجتمع الإنساني بقضه وقضيضه إلى متاهات الغابة الحيوانية التي لا تعرف سوى البقاء للأقوى، القوي يعمل ما يحلو له ويتغذى على من هو أصغر منه، لا مراجع تنصف ولا نظام يضبط! ختاما: لا أعلم ماذا حل بتلك الجزيرة وأهلها وماذا كانت نهايتهم؟ ولكني أتمنى أن تتشابه القصتان في الواقع كما تشابهت في المقال، وأن تهب عاصفة الحزم وتدلف بقارب من هيئة الرقابة ليطلع ويتأكد من أن أحد أهم مقاييس الحكم على أداء الدوائر الحكومية (الالتزام بالنظام) ما زال على طبيعته ولم يتم استئصاله ورميه في الأدراج.
عبدالخالق المريط