الخطاب الملتبس
تهتم العرب بالبلاغة والوضوح ويأسر أسماعهم جميل القول والبيان ويكرهون الغموض واحتمال تعدد المعاني في خطابهم ويمدحون الاختصار في الكلام، ولهذا كان من المأثور: إن من البيان لسحرا
الثلاثاء / 14 / محرم / 1437 هـ - 14:00 - الثلاثاء 27 أكتوبر 2015 14:00
تهتم العرب بالبلاغة والوضوح ويأسر أسماعهم جميل القول والبيان ويكرهون الغموض واحتمال تعدد المعاني في خطابهم ويمدحون الاختصار في الكلام، ولهذا كان من المأثور: إن من البيان لسحرا. وقد عرف عن العرب إنزالهم الخطيب فوق منزلة الشاعر مع ما كان للشعر من مكانة عالية في تراثهم الأدبي، والسبب هو ما يحظى به الخطيب من توقير المجتمع وما يفرض لنفسه من احترام وتقدير يجعل لكلامه أثرا بالغا في الناس. والعرب يميلون بثقافتهم وفطرتهم إلى المكاشفة والمشافهة والسهولة، وعندما أسلموا وانتشروا في الأرض حل الوعاظ والمذكرون محل الشاعر والخطيب في المجتمع القديم ونزلوا منزلته لاتصال عمل الواعظ بالقيم الأخلاقية التي يأمر بها الدين ويحث عليها الإسلام ويضاعف الجزاء الحسن لمن يلتزم بها. وكان هؤلاء الوعاظ والدعاة قادة الرأي في المجتمع وتأثيرهم كبير في عامة الناس وخاصتهم وشأنهم محمود عند الجميع حيث كانت جهودهم موجهة نحو السمو الأخلاقي، ومواعظهم عامة ومحايدة تتناول المشتركات بين الناس والمسلمات عند المتلقين جميعا ولا تدخل في التفاصيل، وتدعو إلى الفضائل وتحذر من الفرقة والاختلاف، كان ذلك قبل تعدد مذاهب المسلمين الفقهية واختلاف أهوائهم وآرائهم. أما حين حدث الاختلاف فقد تحولت وظيفة الوعاظ ومن يسمون أنفسهم دعاة إلى الانحياز المذهبي والانتصار للرأي الذي يراه فريق من المسلمين ويخالفه في رؤيته آخرون، فانحاز الوعظ والوعاظ إلى الجماعة التي ينتمون إليها وضاقت الدائرة التي يتحركون فيها فأصبح كل واعظ لسانا للمذهب الذي يتبعه ويؤمن به ويدعو إليه، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى تجريم من يخالفه في الرأي والمذهب، وكل ما اتسعت دائرة الخلاف بين المذاهب اتسعت لغة الكراهية بينهم وكذب كل فريق على الآخر. تحول الوعاظ والدعاة أتباعا لمذاهبهم وبعدت الشقة بينهم وعمد كل منهم لتعزيز رأيه وتضعيف خصمه وإنكار حقه في الاجتهاد ومصادرة ما لديه، وصار خطاب المذهب مطية للتجريم وليس دعوة للدين إلا القليل ممن وفقه الله لطريق الحق وأدرك دعوة الصدق وأخلص في العمل. تحول الوعظ من عمل نظيف محايد إلى عمل ملوث بالكراهية والبغضاء ملطخ بالأهواء والآراء وتجاوز ذلك إلى تصنيف الناس وتقسيمهم إلى طوائف وشرائع لا يلتقي بعضها مع بعض، وهذا مصدر الخطر لا سيما على المجتمعات المختلطة ذات التعدد المذهبي الذي قلما تخلو منه دولة أو مجتمع، وأصبح الوعاظ دعاة لهدم قيم المحبة والسلام وألسنة فرقة وتباعد بين الناس. لقد أدركت المجتمعات المعاصرة أهمية الخطاب العام الذي يوجه للجمهور وأثره على تماسك المجتمع وسلامته وأمنه وقامت في الجامعات وفي المراكز البحثية دراسات مستفيضة هدفها تحليل الخطاب الذي يستهدف العامة سواء كان الخطاب سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا وتقويم الأثر الذي ينتج عنه ومن المتفق عليه أن المستهدف في الخطابات المفتوحة هو الجمهور المحايد لأنه يسهل قياده وتوجيهه وإقناعه بالفكر الذي يحمله وبالمضامين التي يريد منشئ الخطاب جمع الناس عليها وقبولهم لها وتحويل المتلقي من مستمع إلى مقتنع بالفكرة التي يدعو لها الخطاب ثم مطبق لها متمثل لقيمها بعد أن تأخذ المساحة الممكنة من تعاطفه أولا ثم العمل من أجلها والاندماج فيها. إن الكثير من الوعاظ ينهجون سبيلا يمزقون وحدة المجتمع ويهدمون الأسس الصلبة التي يحرص المصلحون على بنائها وتماسكها وينشرون خطابا ديماغوجيا ملتبسا بالوعظ موهما بالتدين وموجها إلى المخالف من أبناء الوطن يجرمه ويبيح النيل منه، وها نحن نحصد نتائج خطابهم فيما نراه يحدث من تفجير وتدمير للمساجد وقتل الأبرياء على الهوية المذهبية أو الوظيفية يقوم به من تلقى الخطاب الملتبس والتجييش العاطفي والمراوغة في الدلالة والمقاصد، كل من قاموا بالتفجير في الآونة الأخيرة تلقوا خطاب التجريم والتكفير من لسان واعظ أو محرض. ليست المشكلة الآن فيما يقول الوعاظ ومن يتأثر بوعظهم، المشكلة أننا لم نجد الشجاعة الكافية لبيان الأمر الملتبس بين ما هو من الدين وما هو من تفسير الوعاظ والمذكرين، التردد والخوف وعدم الحزم في توضيح الالتباس هو المشكلة وإذا أردنا السلامة لمجتمعنا وأمننا فعلى القيادات العلمية الواعية وعلى المثقفين وأهل الرأي توضيح الملتبس وتفسير الغامض وبيان الحق للناس.