الرأي

أصفار الكبار

رهام فراش
يعتقد من يتابع البرامج خلف الشاشة الصغيرة أن الأمر لا يتجاوز حدود الجهد المبذول في اختيار مكان التصوير والنص المكتوب لإعداد البرنامج والضيوف، وربما القليل من التفاصيل الهامشية التي يكون حلها بوجود ميزانية وأجهزة تقنية وكادر فني. لكن الحقيقة أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير في بعض الأحيان!

أقصد بذلك البرامج الموجهة بعناية والمدروسة بشكل واضح وأهداف عميقة.

تابعت بشغف كما هو حال الكثيرين مثلي، برنامج «من الصفر» على شاشه إم بي سي لموسمين سابقين، والذي تميز في تقديمه الإعلامي مفيد النويصر، حيث استعرض فيه بقالب وثائقي شخصيات لها بصمة وإنجاز بدأته من الصفر.

وعلى الرغم من عملي لفترة ليست قصيرة في إعداد وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، إلا أن فرصة عملي ضمن فريق برنامج «من الصفر» للموسم الثالث كانت مختلفة جدا.وقفت فيها على كواليس العمل الإعلامي الاحترافي والمتقن، والذي يبذل فيه جهد كبير خلف الكاميرات من إعداد وتنسيق وتحرير ثم إنتاج وإخراج.

ساعات طويلة من العمل المتواصل تتخللها تحديات صعبة، أذكر منها الظروف المناخية والطقس الممطر لمدينة الرياض الذي كان سببا في توقف وإرباك التصوير مرات ومرات.

اختيار الضيوف بعناية، وعناء البحث والوصول لهم ثم تصوير مادة ضخمة لساعات طويلة يتم تنقيحها ومعالجتها واختصارها لتكون جرعة مركزة فيها ما قل ودل للمتلقي.

الجميع يعمل بتفان وشغف كخلية النحل دون كلل أو ملل لإخراج البرنامج بشكل يليق بعقلية المشاهد العربي ويعيد البوصلة الإعلامية السعودية والعربية للاتجاه الصحيح، بعدما انحرفت عن مسارها لوقت طويل وانحازت للمستنسخ من البرامج الأجنبية والطرح السطحي والكوميدي الساخر كثيرا.

برنامج من الصفر والأصداء التي أحدثها أخيرا أثبتا أن المجتمع متعطش للقيمة ومنحاز للمعنى الراقي أينما وجد.

اعتمد فيه رئيس تحريره ومقدمه (النويصر) مع فريق العمل أن يعيد تعريف الصفر من جديد في هذا الموسم، فاستضاف شخصيات سياسية ومخملية لها إنجاز حقيقي بدأته من لا شيء، ولا علاقة له باسم العائلة ولا المكانة الاجتماعية، هو نتاج اجتهاد شخصي حقيقي لأصحابه وإصرار ومثابرة على ترك أثر وبصمة في مجال محدد.

فكانت النتيجة ظهور شخصيات لأول مرة على الشاشة كالأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، يحكي عن بداياته الصفرية في العمل الجاد في مهنة كتابة الشعر. والشيخ صالح المغامسي الذي لم يدرس العلم الشرعي في حياته ولم يحصد شهادات التفوق في المدرسة، لكنه حصد محبة الناس واستوطن قلوبهم بشخصيته الفذة.

كوثر الأربش (أم الشهيد) ورحلتها في نبذ العنصرية والطائفية والتوحد تحت لواء الوطن، الدكتور أسامة شبكشي الذي خرج للناس غير خجل من مرضه وصعوبة نطقه ليروي قصة كفاحه العظيمة ويترك للجيل بل وللوطن إرثا حقيقيا للكفاح وأنموذجا يحتذى به.

الدكتور عبد الرحمن السميط الذي يجب أن يخلد ذكره ومسيرة عطائه في الدعوة لله على مر العصور، كانت قصته ملهمة وتعيد في النفس ما قد نسي أو اندثر من قيم ومعان جميلة للتكافل بين البشر وعلو صوت الإنسانية على المادة.

الأميرة لولوة الفيصل وحديثها العفوي الممتع عن البيت العظيم الذي تربت فيه والوالدين والأسرة الملكية المتواضعة والمثقفة ورحلتها في إكمال مسيرة والدتها في دعم تعليم الفتيات.

هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر جاءت ضمن كوكبة أخرى مميزة لقصص النجاح الصفرية، والتي كانت القواسم المشتركة بينها في التميز على الأرجح، تتمثل في الثقة بالنفس واليقين بالله، والإصرار والكفاح مع وضوح الرؤية، والأهم الشعور بالمسؤولية.

أخيرا يستحق منا إعلامنا أن نكون على قدر الأمانة والوطنية.