الرأي

الإبحار عكس التيار

توجد في مجتمعنا ما يمكن أن نسميها الفجوة بين الأجيال التي تشكل في الغالب ضعفا في التواصل بين الجيل القديم والجيل الحديث، كتواصل الأبوين بأبنائهما. لا بد أنها ظاهرة مألوفة لنا جميعا وتجربة حدثت في حياة كل فرد منا. من المؤكد وجود عوامل عدة مساهمة في حدوث ظاهرة كهذه، إلا أن هناك عاملا يلعب دورا كبيرا في توسيع الفجوة وخلق عائق في التواصل بين الأجيال والذي يمكن أن نسميه الإبحار عكس التيار الذي ينتهجه الجيل القديم، مشكلا نقطة ضعف في تكاتف المجتمع وتلاحمه. تعزز هذه الظاهرة شعور الكبار بالسن بغربة الزمن وانتمائهم لـ «جيل الطيبين» - هذا المصطلح الناتج عن الحنين المصاحب للنفس البشرية الذي يتفاقهم غالبا مع التقدم في العمر - في المقابل يبطئ ذلك حركة سير الأجيال الجديدة.

فبإلقاء نظرة إلى الخلف سنجد أن التيارات حركة فعالة في تغيير المجتمعات حتى أصبحت تعد سنة من سنن الحياة، تقتحم المجتمعات بلا استئذان لتأخذ مجتمعا كاملا معها إلى مرحلة أخرى.

يقول الروائي جورج أورويل في كتابه «الحنين إلى كاتالونيا» «كل جيل يأتي يتصور أنه أكثر ذكاء من الجيل الذي قبله، وأكثر وعيا من الجيل الذي بعده». مما يؤكد استمرارية خلاف الأجيال على مر الزمان، حيث إن الجيل القديم يميل إلى استنكار التيارات الجديدة، فيحدث مثلا أن يستنكر من فكرة اقتناء الأطفال للأجهزة الالكترونية، أو من طريقة ارتداء الشباب للملابس الحديثة، لإيحائها له بشيء من التسيب وعدم الانضباط، والاستنكار أيضا من توجهاتهم التعليمية والوظيفية غير المألوفة، والتي لا تبدو خيارا صائبا ومستقبلا آمنا بنظر الجيل القديم، كالتوجه للعمل في تطبيقات وبرامج الهواتف الذكية لسيارات الأجرة أو توصيل الطلبات أو في عربات الطعام المتنقلة. جميعها أمور مستجدة لا يتفهمها الجيل القديم كالوظائف الحكومية ووظائف شركات القطاع الخاص، في حين أنها توجهات ساهمت في توفير فرص وظيفية في عصرنا الحاضر لفئة كبيرة من المجتمع وشكلت نقلة نوعية في سوق العمل.

من صور محاربة التيار ما يحدث داخل المنازل من رفض من قبل الوالدين للتيارات الحديثة مقابل انفتاح أبنائهما من الجيل الحديث لها، مما يجعل الأمر يبدو كأن كل جيل يتحدث لغة مختلفة عن الآخر. فالجيل القديم يناشد باسم الأصالة والتواصل الحي وهجر الأجهزة، والجيل الحديث يتخذ عكس ذلك أسلوبا للحياة.

بغض النظر عن مدى إيجابيات وسلبيات التيارات التي تقتحم المجتمع، إلا أنه من المهم توعية أفراده بمجاراة التيارات التي تساهم في التقدم ولا تمس الجوهر أو الدين أو الأخلاق. فالمجاراة هنا ليست دعوة للجهل كما يظن البعض، إنما مساهمة في نشر الوعي وفهم خصائص التيارات وما تحمله من تغيير، لتفادي خطر الوقوع في المجهول الذي يخلفه الرفض.

لذلك، مجاراة التيارات هي مرحلة من الوعي لا بد أن يتفهمها الجيل القديم ويتأهب لها الجيل الحديث في المستقبل، ليتمكن من التواصل مع أبنائه بصورة أفضل ويقلل من مظاهر الفجوة التي توارثت عبر الأجيال. أؤمن شخصيا أنه من صالح أفراد المجتمع الرضوخ لفكرة التغيير، مع العلم أن الرضوخ ليس ضعفا دائما كما يظنه البعض، وإنما في أحيان كثيرة يكون ذكاء. في حين تقبل المجتمع لتيار التغيير يساعد على فهم واستيعاب أفراده لكيفية التعامل مع الجديد المختلف، حتى تنتج عن ذلك حلول مبدعة ودقيقة لن يستطيع التوصل إليها المجتمع المشغول بالرفض.