حكاية السكر.. هل يعيد التاريخ نفسه؟
الأربعاء / 15 / رمضان / 1439 هـ - 22:45 - الأربعاء 30 مايو 2018 22:45
لم يكن قصب السكر معروفا قبل عشرة آلاف عام إلا في غينيا الجديدة، ثم انتقل إلى آسيا وتمكن الهنود في القرن السادس الميلادي من تكريره وإنتاج مسحوق السكر. ثم عرف الفرس لاحقا أسرار صناعة السكر واستخدموه في إعداد الحلوى. ولما فتح المسلمون بلاد فارس، نقل العرب معهم معارف التصنيع وطوروها إلى شكلها الحالي.
أما الأوروبيون فلم يعرفوا السكر إلا في القرن الـ 14، حيث انتشرت زراعة القصب على سواحل البحر الأبيض المتوسط، في قبرص وسيسيليا. وزرع الإسبان والبرتغاليون قصب السكر في مستعمراتهم من الجزر، في الغرب الأفريقي، كالماديرا وساو.
أما في الشمال الأوروبي فلم يعرف السكر حتى حلول القرن الـ 16، وكان حينها حكرا على المترفين. وبعد أن عرف الإنجليز والفرنسيون السكر عشقوه لسببين؛ الأول لما وجدوه فيه من روعة في تحلية الشاي والقهوة والكاكاو التي أولعوا بها. والسبب الثاني تجاري، فالسكر سلعة يمكن تصديرها واستيرادها بكميات كبيرة تحقق للمستثمرين أرباحا عالية.
وفي رحلته الثانية إلى العالم الجديد في 1493، حمل كرستوفر كولومبوس شتلات من قصب السكر لزراعتها هناك، لما عرفه في تجاربه السابقة من حجم الأرباح التي تدرها تجارة السكر. وزرع كولومبوس شتلاته الأولى في جزيرة هيسبانيولا، وخلال عقود قليلة توسعت زراعة القصب وصناعة السكر، ووصلت إلى جامايكا وكوبا. وخلال هذه الفترة كان يتم توظيف سكان المستعمرات الأصليين في الزراعة والتكرير، لكن مع احتكاكهم بالأوروبي الذي كان يحمل أنواعا من الجراثيم الغريبة على جهازهم المناعي، تفشت الأمراض بين السكان المحليين، وقضت على شعوب بكاملها. واضطر الإسبان إلى استيراد العبيد من القارة الأفريقية لإدارة عجلة الإنتاج وتزويد أوروبا باحتياجاتها من السكر.
وجاء البرتغاليون، بعد ذلك، إلى البرازيل وأنشؤوا فيها مستعمراتهم، ثم استولوا على الأراضي الخصبة والغابات الاستوائية، وأزالوا أشجارها وزرعوا القصب لإنتاج السكر، وطردوا السكان الأصليين أو أبادوهم وجاؤوا بالرقيق من الغرب الأفريقي، حتى تجاوز عددهم المئة ألف.
ومع حلول القرن الـ 18، اكتمل زواج الرقيق بصناعة السكر، وبدأ الزحف على ما تبقى من الجزر، واحدة تلو أخرى، وأصبح الاستيلاء على الأرض ممنهجا بتمويل من أمستردام التي كانت مركزا لرأس المال في ذلك الحين، واستمر تدمير الغابات الماطرة وتحويلها إلى مزارع لقصب السكر، وكانت النتيجة كسابقتها، إبادة للسكان الأصليين، أو الحكم عليهم بالشتات وتهجيرهم ليسكنوا الصفيح على أطراف المدن، ويموتوا جوعا أو من تفشي الأمراض. ولما تنامت صناعة السكر، ودخل تجارتها وسوقها لاعبون جدد سيرت أوروبا جيوش الغزو للاستيلاء على مزيد من الأرض، وتطلب العمل مزيدا من الأيدي العاملة فجيء بمزيد من الرقيق الأفريقي وبأعداد وصلت إلى أكثر من مليونين، ووضعوهم في ظروف عمل ومعيشة مأساوية، وانتفخت بذلك حسابات المستثمرين في أوروبا، ونمت رؤوس الأموال في أمستردام وفي لندن وباريس.
ومنذ اندلاع أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العامين 2008 - 2009، عادت أعمال اختطاف الأرض من أيدي السكان الأصليين وتصاعدت وتيرتها مرة ثانية بدعوى تحقيق الأمن الغذائي لبعض الدول، كبديل لذرائع الأمس؛ تحسين حياة الشعوب المتوحشة وتطهيرهم من أدران الوثنية، وجاءت هذه المرة في عباءة الاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة بدلا من الغزو وتسيير الجيوش. أما الغزاة فتم استبدالهم بالشركات عابرة القارات وبالأثرياء من دول العالم.
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
في دراسة على إثيوبيا وتنزانيا ومالي وغانا وموزمبيق والسنغال، لاحظ الباحثون التزايد المكثف في استحواذ المستثمرين الأجانب والشركات الزراعية عابرة القارات على الريف الأفريقي. وقدرت منظمة أوكسفام الخيرية بأن هناك نحو 230 مليون هكتار من أراضي الدول الفقيرة، (معظمها في أفريقيا)، أو ما يعادل مساحة شمال أوروبا، قد تم بيعها أو تأجيرها لفترات ممتدة لمنظمات أجنبية أو حكومات دول أخرى.
يزعم البعض أن في تطوير الأراضي البكر وإزالة الغابات الماطرة وزراعتها بمنتجات اقتصادية نفع كبير لاقتصاد الدول الفقيرة. قد يكون كذلك، لكن ما تسببه من أضرار بيئية وتجريف لهذه الغابات قد يكون أكبر على المدى البعيد. ثم، بعد ذلك، من يضمن مصير السكان المحليين؟ هل سيدفع بهم إلى أطراف المدن ومساكن الصفيح والقضاء على ثقافتهم؟ هل سنأخذ من حكاية السكر عبرة ونتعامل معهم بإنسانية تضمن حقوقهم وتحفظ لهم ثقافاتهم وطريقة عيشهم؟ أم إن ذلك سيعني اغتصاب الأرض وانتزاعها من أيديهم؟ ثم تهجيرهم إلى أراض غريبة يجهلون طرق استغلالها، أو أنها لا تصلح لزراعة محاصيلهم التي يقتاتون عليها وعلى تربية حيواناتهم، ويحكم عليهم بالشتات أو بالإبادة.
سنأمل ألا يعيد التاريخ نفسه.
أما الأوروبيون فلم يعرفوا السكر إلا في القرن الـ 14، حيث انتشرت زراعة القصب على سواحل البحر الأبيض المتوسط، في قبرص وسيسيليا. وزرع الإسبان والبرتغاليون قصب السكر في مستعمراتهم من الجزر، في الغرب الأفريقي، كالماديرا وساو.
أما في الشمال الأوروبي فلم يعرف السكر حتى حلول القرن الـ 16، وكان حينها حكرا على المترفين. وبعد أن عرف الإنجليز والفرنسيون السكر عشقوه لسببين؛ الأول لما وجدوه فيه من روعة في تحلية الشاي والقهوة والكاكاو التي أولعوا بها. والسبب الثاني تجاري، فالسكر سلعة يمكن تصديرها واستيرادها بكميات كبيرة تحقق للمستثمرين أرباحا عالية.
وفي رحلته الثانية إلى العالم الجديد في 1493، حمل كرستوفر كولومبوس شتلات من قصب السكر لزراعتها هناك، لما عرفه في تجاربه السابقة من حجم الأرباح التي تدرها تجارة السكر. وزرع كولومبوس شتلاته الأولى في جزيرة هيسبانيولا، وخلال عقود قليلة توسعت زراعة القصب وصناعة السكر، ووصلت إلى جامايكا وكوبا. وخلال هذه الفترة كان يتم توظيف سكان المستعمرات الأصليين في الزراعة والتكرير، لكن مع احتكاكهم بالأوروبي الذي كان يحمل أنواعا من الجراثيم الغريبة على جهازهم المناعي، تفشت الأمراض بين السكان المحليين، وقضت على شعوب بكاملها. واضطر الإسبان إلى استيراد العبيد من القارة الأفريقية لإدارة عجلة الإنتاج وتزويد أوروبا باحتياجاتها من السكر.
وجاء البرتغاليون، بعد ذلك، إلى البرازيل وأنشؤوا فيها مستعمراتهم، ثم استولوا على الأراضي الخصبة والغابات الاستوائية، وأزالوا أشجارها وزرعوا القصب لإنتاج السكر، وطردوا السكان الأصليين أو أبادوهم وجاؤوا بالرقيق من الغرب الأفريقي، حتى تجاوز عددهم المئة ألف.
ومع حلول القرن الـ 18، اكتمل زواج الرقيق بصناعة السكر، وبدأ الزحف على ما تبقى من الجزر، واحدة تلو أخرى، وأصبح الاستيلاء على الأرض ممنهجا بتمويل من أمستردام التي كانت مركزا لرأس المال في ذلك الحين، واستمر تدمير الغابات الماطرة وتحويلها إلى مزارع لقصب السكر، وكانت النتيجة كسابقتها، إبادة للسكان الأصليين، أو الحكم عليهم بالشتات وتهجيرهم ليسكنوا الصفيح على أطراف المدن، ويموتوا جوعا أو من تفشي الأمراض. ولما تنامت صناعة السكر، ودخل تجارتها وسوقها لاعبون جدد سيرت أوروبا جيوش الغزو للاستيلاء على مزيد من الأرض، وتطلب العمل مزيدا من الأيدي العاملة فجيء بمزيد من الرقيق الأفريقي وبأعداد وصلت إلى أكثر من مليونين، ووضعوهم في ظروف عمل ومعيشة مأساوية، وانتفخت بذلك حسابات المستثمرين في أوروبا، ونمت رؤوس الأموال في أمستردام وفي لندن وباريس.
ومنذ اندلاع أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العامين 2008 - 2009، عادت أعمال اختطاف الأرض من أيدي السكان الأصليين وتصاعدت وتيرتها مرة ثانية بدعوى تحقيق الأمن الغذائي لبعض الدول، كبديل لذرائع الأمس؛ تحسين حياة الشعوب المتوحشة وتطهيرهم من أدران الوثنية، وجاءت هذه المرة في عباءة الاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة بدلا من الغزو وتسيير الجيوش. أما الغزاة فتم استبدالهم بالشركات عابرة القارات وبالأثرياء من دول العالم.
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
في دراسة على إثيوبيا وتنزانيا ومالي وغانا وموزمبيق والسنغال، لاحظ الباحثون التزايد المكثف في استحواذ المستثمرين الأجانب والشركات الزراعية عابرة القارات على الريف الأفريقي. وقدرت منظمة أوكسفام الخيرية بأن هناك نحو 230 مليون هكتار من أراضي الدول الفقيرة، (معظمها في أفريقيا)، أو ما يعادل مساحة شمال أوروبا، قد تم بيعها أو تأجيرها لفترات ممتدة لمنظمات أجنبية أو حكومات دول أخرى.
يزعم البعض أن في تطوير الأراضي البكر وإزالة الغابات الماطرة وزراعتها بمنتجات اقتصادية نفع كبير لاقتصاد الدول الفقيرة. قد يكون كذلك، لكن ما تسببه من أضرار بيئية وتجريف لهذه الغابات قد يكون أكبر على المدى البعيد. ثم، بعد ذلك، من يضمن مصير السكان المحليين؟ هل سيدفع بهم إلى أطراف المدن ومساكن الصفيح والقضاء على ثقافتهم؟ هل سنأخذ من حكاية السكر عبرة ونتعامل معهم بإنسانية تضمن حقوقهم وتحفظ لهم ثقافاتهم وطريقة عيشهم؟ أم إن ذلك سيعني اغتصاب الأرض وانتزاعها من أيديهم؟ ثم تهجيرهم إلى أراض غريبة يجهلون طرق استغلالها، أو أنها لا تصلح لزراعة محاصيلهم التي يقتاتون عليها وعلى تربية حيواناتهم، ويحكم عليهم بالشتات أو بالإبادة.
سنأمل ألا يعيد التاريخ نفسه.