سوبرمان بين الحلم والحقيقة

«الجينوم البشري» أو تركيب المادة الوراثية للإنسان، أكبر مشروع عالمي دشن القرن الحادي والعشرين، وشاركت فيه ست دول عظمى هي الولايات المتحدة وروسيا واليابان وإنجلترا وفرنسا وألمانيا

«الجينوم البشري» أو تركيب المادة الوراثية للإنسان، أكبر مشروع عالمي دشن القرن الحادي والعشرين، وشاركت فيه ست دول عظمى هي الولايات المتحدة وروسيا واليابان وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وهو أول مشروع علمي يثير لغطاً وجدلاً غير مسبوقين، دينياً واجتماعياً وأخلاقياً وقانونياً وسياسياً فـ «الجينوم البشري» ليس مشروعاً بريئاً تماماً، والقائمون عليه ليسوا محايدين، لأن العلم قد يوجه في بعض الأحيان لخدمة أغراض ومصالح معينة وعلى سبيل المثال، منذ اكتشاف مكان وتركيب «الجين» الخاص بلون البشرة، اتهم العالم الأمريكي هيرنشتين الزنوج بأنهم متخلفون عقلياً، فيما طالبت العالمة الأمريكية هوندا بحرمانهم من التعليم والعلاج ومعاملتهم كالحيوانات والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما العمل إذا استخدم أحد السياسيين الموتورين هذه المعلومات الوراثية ضد جنس معين أو شعب حامل لجينات معينة؟ والزعيم النازي هتلر ليس بعيداً، كما أن الحرب البيولوجية ستصبح أكثر فتكاً من ذي قبل، ولا تتطلب أكثر من إطلاق فيروس معين لا يصيب إلا حاملي جينات خاصة دون غيرهم

مصلحة المجتمع

وأصبحت معرفة «البطاقة الجينية» للإنسان مطلباً ملحاً لأولياء الأمور والراغبين (حديثا) في الزواج وشركات التأمين وبعض حكومات الدول الغربية، إذ إن «مصلحة المجتمع» ستعلو في الأيام المقبلة على «حقوق الفرد»، على الرغم من كل ادعاءات «الحريات الفردية»، فالمجتمع كان وسيظل شريكاً لأفراده في حقوقهم الشخصية وعلى سبيل المثال، ليس من حق الفرد أن ينجب طفلاً (منغوليا) أو مصابا بداء خطير لا علاج له حتى الآن، أو يمكن أن يصاب به في مرحلة معينة من عمره في المستقبل - باعتباره يحمل بذرة هذا المرض في جيناته - مثل مرض الفصام «الشيزوفرنيا» ويوجد اليوم ما بين 2000 إلى 3000 مرض وراثي، منها 350 مرضاً يحاول مشروع الجينوم البشري تحديدها بمعرفة أماكن جيناتها وتركيبها، منها أنيميا الخلايا المنجلية، وأنيميا البحر المتوسط، وسرطان الثدي والمستقيم، والزهايمر، خرف الشيخوخة، والتليف الكيسي وتحديد الجين المسؤول عن المرض والبروتين الذي يفرزه، فيه نصف العلاج، لأن العلاج سيتمثل في سحب خلايا المرض التي تحوي الجين المعطوب ثم حقنها بجين سليم أو طبيعي، وقد تندهش من أن معرفة الجين الواحد تكلف 15 مليون دولار وتستغرق سنوات عدة، وتتضافر فيها جهود علماء من مختلف التخصصات، إضافة إلى الكمبيوتر الذي أحدث نقلة كيفية في مجال الهندسة الوراثية وفك الشفرة الوراثية

العلم والدين

وستصطدم مصلحة المجتمع بالدين في المستقبل فيما يخص «الإجهاض» و»الأجنة المريضة»، خصوصاً أنه لن يسمح لأي حامل مرض وراثي لا علاج له حالياً بالوجود أصلاً، فالمجتمع يتجه على المدى القريب إلى أن يصبح مجتمعاً «للإنسان السوبر» لأسباب أصبحت معروفة للجميع، وسيصبح السؤال: من هو الإنسان السليم؟ وليس من هو الإنسان المريض؟وفي ضوء هذا السؤال الجديد تتفجر قضايا من نوع جديد أيضاً، مثل: ماذا سيحدث إذا علمت أنك حامل لمرض كذا وكذا، وأنك في عمر كذا ستموت بسبب المرض الفلاني؟ ماذا سيحدث إذا علمت أنك ورَّثت أولادك أمراضاً قاتلة؟ هل من حق شركات التأمين معرفة المادة الوراثية وتركيبها للمؤمّن عليهم أم لا؟ هل الانتحار في الكبر أفضل أم قتل الجنين في بطن أمه أفضل؟ هل من حق أحد التوائم معرفة تركيبه الوراثي من دون أخذ رأي التوأم الآخر؟ أسئلة جديدة أصبحت تثير جدلا واسعا اليوم في المقابل فإن لجنة «حقوق الإنسان» في منظمة الأمم المتحدة أثارت قضية مهمة، تتعلق بأن معرفة الإنسان المسبقة عن خريطته الجينية تحد من حريته تماماً، حيث لا يمكن للفرد أن يظلّ مؤمناً بحرّيته إذا كان مستقبله ومآل أفعاله معلومَيْن له من قبلُ فثمّة ضرب من الحقّ الأساسي لكل فرد في أن يكون مستقبله غير محدد إنّ مطلب الحرّية ومفهوم الحرّية، باعتبارهما حقّا أصلياً للإنسان، هما اللّذان يمليان هنا هذا الحذر الأخلاقي من هندسة وراثية، رغم أنها علامة مميزة للتقدم العلمي في القرن الحادي والعشرين

الجينات والتفكير

طرح شيخ الفلاسفة المعاصرين يورجن هابرماس هذا السؤال: كيف يمكن لنا أن نغير من رؤيتنا لأنفسنا كبشر‏ يعيشون ويتحملون مسؤولية أفعالهم‏، عندما يأتي اليوم الذي نقوم فيه بالتحكم في طبيعتنا الجينية أو في كيفية عمل عقلنا؟ إن ذلك معناه تغيير رؤيتنا لأنفسنا تغييرا كاملا‏ ‏ ومن شأن هذا التطور أن يؤثر بالضرورة في الإدراك الباطني الذي يعتبر مميزا لكل شخص‏، والمصاحب لكل أعمالنا‏، والذي يؤكد في النهاية أن الفرد هو الذي يتحكم ويصنع فكره‏ ‏والنتيجة النهائية لهدم إدراكنا هذا بالحرية في التفكير والعمل‏، عن طريق التحكم فيه عن بعد‏ وتوجيهه‏، فإن المؤسسات الديموقراطية ستنهار أيضا‏،‏ فإنه منذ عهد جان جاك روسو‏ يتميز المواطن الديموقراطي عن الآخرين بأنه قادر على إدراك أنه ليس فقط المستهدف من القوانين‏، ولكنه أيضا هو مصدر تلك القوانين‏، لذلك فإن الطفل الذي سيتم تشكيله جينيا قبل مولده‏، حسب رغبة الأهل‏، سيشعر عندما يصبح في سن المراهقة بأنه سجين في تلك الرغبات السابقة ومقيد في حريته الأخلاقية ‏ وفي تلك الحالة، فإن المراهق سيشعر أنه ليس مسؤولاً عن أفعاله‏، بل المسؤولون هم أهله الذين اختاروا له تلك الصفات الجينية‏،‏ وسيحملهم مسؤولية أفعاله‏ ‏ ويقول هابرماس إن الأهل يريدون الأفضل لأطفالهم‏، ولكنهم لا يستطيعون أن يحددوا الصفات الأفضل في تاريخ حياة ليست حياتهم‏،‏ لذلك فإن الفيلسوف الألماني يرى أنه من الأفضل الاقتصار على إجراء تغييرات جينية طبية‏ حتى لا نخاطر بإجراء تغييرات جينية فكرية وعقلية تأتي بنتائج عكسية‏، على أن تتم تلك التغييرات الطبية بين أشخاص عاقلين قادرين على إعطاء موافقتهم عليها‏ ‏وباختصار ‏ ‏ أليست حرية التفكير والاختيار هي من الحقوق الأساسية التي تمنحها الديموقراطية للفرد في المجتمع، وليست هي التي ظل الإنسان يناضل من أجل الحصول عليها‏‏ خلال تاريخه؟

 

نهاية المواطن الديمقراطي

يبدو أن ظاهرة استنساخ البشر ليست جديدة كما أنها لم تظهر مع مشروع «الجينوم البشري» في القرن الحادي والعشرين فتكوين «المواطن» هو نوع من الاستنساخ السياسي والاجتماعي والقيمي لنموذج إنساني معين تسعى السلطة المهيمنة عادة لفرضه ليس عن طريق «علم الوراثة» إنما عن طريق التربية والتعليم والمؤسسات القانونية والسياسية وبهذا المعنى يمكن القول إن «الإنسان الديمقراطي» في الغرب تم استنساخه منذ القرن الثامن عشر على أيدي كتيبة الفلاسفة الاجتماعيين من جون لوك ومونسيكيو وروسو وغيرهم ولأننا دخلنا عصرا جديدا هو «عصر ما بعد الديمقراطية»، فإن المخاوف التي يثيرها معظم المهتمين بحقوق الإنسان في الغرب، تكشف في الحقيقة عن الرعب من انهيار المؤسسات الديمقراطية، وأن الشعوب المستأنسة (المستنسخة ديمقراطيا) عبر قرون طويلة داخل «حظيرة السلطة» بدأت حالة من التمرد والرفض غير مسبوقة وهذا معناه، أنه لن يسمح باستنساخ أي «مواطن جديد» لا يشبه «النسخة الأصلية» للمواطن الديمقراطي فالعلوم الحديثة تسحب البساط من تحت أقدام السلطة التي تأسست في الغرب منذ قرون طويلة – وهذا أصبح واقعا اليوم – وأن مفهوم «المواطن الصالح» أصبح يخضع للمراجعة وإعادة النظر في العصر الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لقد أصبحنا أمام مستجدات ومسؤوليات جديدة لا عهد لنا بها، من هنا يدعو الفيلسوف المعاصر بيتر سلوترديك في ثلاثيته الشهيرة «فضاءات» - صدرت تباعا في 1998 و1999 و2004 - إلى اكتشاف فضاءات جديدة مهملة وخفية، لأن وظيفة العلم والفلسفة والدين هي البحث عن هذه اليوتوبيا المفقودة بالكشف عن «الحبل السري» الذي يربط بين البشر جميعا داخل رحم «الوجود»، وأيضا داخل العلاقات السياسية بين الدول، وهو يريط بين «الأزمات في الطبيعة والاقتصاد» وأزمة التواصل بين البشر والمجتمعات والثقافات وقد أثارت محاضرته التي ألقاها في 1997 والمعنونة بـ» قواعد لحظيرة النوع البشري» في الاحتفال بفلسفة هيدجر، العديد من الانتقادات القاسية، حيث قال: إن الثقافات والحضارات أشبه بصوب اصطناعية ومزارع بشرية، وكما أنشأنا محميات لحفظ الحياة البرية والكائنات من الانقراض، يجب علينا الحفاظ على «حيوان أرسطو» الذي أصبح مهددا اليوم بالانقراض عبر التقنيات الجديدة التي ستأتي بالإنسان الأعلى (سوبر مان) الذي تنبأ به نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» نهاية القرن التاسع عشر، خصوصا الاستنساخ الجيني عبر «الانتقاء» الصناعي، حيث سينتقل الإنسان من قدرية الولادة، إلى حرية اختيار المولود (جنسه، شكله وطبيعته)