ناقد هاو

كتب الدكتور شكري عياد في مقدمة كتابه «تجارب في الأدب والنقد» كلاما مهمّا وطريفا، ربما جاز لنا أن نظهر فيه على زهد ذلك الناقد الكبير في الأضواء، ولعلنا نقرأ فيه تواضعا، هو سِمَة من سماته التي عُرِفَ بها وجُبِلَ عليها

كتب الدكتور شكري عياد في مقدمة كتابه «تجارب في الأدب والنقد» كلاما مهمّا وطريفا، ربما جاز لنا أن نظهر فيه على زهد ذلك الناقد الكبير في الأضواء، ولعلنا نقرأ فيه تواضعا، هو سِمَة من سماته التي عُرِفَ بها وجُبِلَ عليها. قال شكري عياد لقارئه: إن كتابه هذا أشبه بـ»المذكرات النقدية»، يدفع صاحبه بها الحياة التافهة الفارغة، وأن قارئه لن يظفر في هذا الكتاب بنقد لناقد محترِف، فكل ما فيه إنما هو «تجارب» لـ»ناقد هاوٍ»، فالرجل حرفته التدريس في الجامعة، وكل ما عدا ذلك ليس سوى «هواية»، يصيب فيها اللذة والمتعة، ويرجو أن يشرك قارئه بها. ولعلنا نقرأ في كلامه أن كل ما يكتبه أدنى إلى إزجاء أوقات الفراغ فيما ينفع، وهو لا ينكر أن هناك نقادا محترفين، ولكنه لا يعدُّ نفسه منهم. وأنا أقرأ في هذا الكلام صلة حميدة بالفن والجمال، فمقاربة الآثار الأدبية، على ما فيها من نفع وعلم ودراية، إن هي إلا قراءة يذهب صاحبها فيها مذهب العاشق الذي يجد في عشقه اللذة والمتعة، فوق ما يجد من الفائدة، ولا يستبعد أن الدكتور شكري عياد قصد إلى تلك الغاية فيما كتب من نقد للآثار الأدبية، تلك التي قرأها في كتاب أو مجلة، أو شاهدها مجسدة على خشبة المسرح، فأحب أن ينقل إلى قارئه ما أحسه فيها من قيمة فنية، فكان ما كتبه قراءة حرة، مكانها الصحافة لا الجامعة، وأندية الأدب والمسرح لا قاعات المحاضرات، وكان قارئه من عامة المثقفين، لا طالبا يتحيَّن ساعةَ يلقي عليه أستاذه دروسا في الأدب أو البلاغة أو النقد. وفي هذا الكتاب الذي حمل عنوانه كلمة ممعنة في التواضع واليسر، وهي كلمة «تجارب»، ينبئ شكري عياد قارئه أنه لن يظفر، كذلك، فيما يسوقه من فصول أذاعها في الصحافة، بـ»مذهب» ينتحله صاحبه في الأدب أو النقد، يسعى به في أندية القوم، ويتخذه شعارا يرفعه في وجوه أقرانه وخصومه. الكتاب لا يقول ذلك، ولا يقترب منه، فغايته التي انتدب إليها أن يقرأ تلك النصوص، لا أقلّ ولا أكثر، وأن الغاية التي قصد إليها ليست إلا الاقتراب من الفن، سواء قرأناه في قصيدة أو قصة أو مسرحية، دون أن يشعل فتيل خصومة، يضيع فيها روح الفن، وكأنه أراد أن يخلص ما يكتبه للنقد وحده، بريئا من لجاجات النقاد وخصوماتهم، بين اليمين واليسار. والمنهج الذي أخذ به الدكتور شكري عياد، لمن عرفه، صار علامة عليه طوال مسيرته في الكتابة، عرفناه في كتبه الأولى، كما عرفناه في كتبه الأخيرة، يقوم على خبرة جمالية ليست باليسيرة، ومعرفة واسعة بنظريات النقد والفلسفة، قديمها وحديثها، وما انفكّ مقترنا بمناهج النقد الحديث، منذ شبابه المبكر، وحين استجلب النقد العربي الحديث نظريات الحداثة كان شكري عياد من أعلام ذلك النقد، دون أن يتنكر لما أخذ به نفسه، أن يكون «هاويا»، يعشق النص، ويجرب أدواته فيه. وأقرب الظن أن منهجه في القراءة والنقد، يرقى إلى زمن بعيد في نشأته، حين التفّ حول شيخه أمين الخولي، فكان من أبرز المعبِّرين عن فكر شيخه وجماعته «جماعة الأمناء»، وفكر الشيخ ومذهب جماعته يمتحان من معين المعرفة الوثيقة بالنص المقروء، وكان الشيخ، وكان تلاميذه من ورائه، يأخذون أنفسهم بفقه النصوص، وغايتهم أن يحسنوا القراءة، وأن يستدرجوا النص ويفهموه حق الفهم، حتى إذا كان لهم ما أرادوه، أنهوا مكابدتهم تلك إلى القارئ، فعسى أن يشاركهم المتعة واللذة.