الفقهاء والأذكياء لا يقودون السياسة

من النظريات المهمة عند ابن خلدون رحمه الله أن العلماء والمفكرين لا يصلحون للسياسة ولا للدخول فيها وممارستها

من النظريات المهمة عند ابن خلدون رحمه الله أن العلماء والمفكرين لا يصلحون للسياسة ولا للدخول فيها وممارستها قال: «والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة، ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر، أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك» قال أيضا: «والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية، ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينفي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها» ويذهب إلى أن أحوال العمران لا يقاس شيء منها على الآخر، فيقع العلماء في الغلط كثيرا ولا يؤمن على استدلالهم وأنظارهم لأنهم تعودوا تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض وهي في أحوال العمران لا تقاس على هذه الطريقة ويلحق بالعلماء في هذا الأمر الأذكياء لأنهم كالفقهاء والمفكرين يغوصون في المعاني والقياس والمحاكاة ويقعون في الغلط ويرى ابن خلدون أن العامي السليم الطبع المتوسط الكيس يقف بالحكم على مادته، وعلى الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يذهب إلى الحكم بقياس ولا تعميم ولا يتجاوز المواد المحسوسة في ذهنه ولعل هذه النظرية تكشف لنا سبب فشل كثير من المفكرين والعلماء والفقهاء وبعض المشهورين بالذكاء في عالم السياسة ليس شرطا أن تكون هذه النظرية مستغرقة للعموم ولا هي وحي لا يجوز رده ولكنها مثبتة تاريخيا وواقعا معاصرا وتنم عن عبقرية صاحبها رحمه الله وقد يتفق الجميع على أن القوانين والأنظمة لا يسنها إلا العلماء ولكن ممارسة الحكم لا يصلح لها المتعمق، لأنها أحداث سريعة وتفصيلات متكاثرة تحتاج إلى عقل مستريح من القلق الذي تحدثه طبيعة العلم والتفكير عند العلماء، وإلى عقل سهل الصدور بعد ورود القضية إليه، ثم إلى شخصية لا تبالغ في النظر إلى المستقبل المصنوع ذهنيا، بل تجنح إلى الواقعية والانسيابية في تفكيك المشكلات والتعامل مع الأحداث وما دام الحاكم محاطا بأهل العلوم والفكر من حوله فإنه يستطيع استثمار هذه العقول فيما يوكل إليها والحكام على مدار التاريخ كانوا على ما عند كثير منهم من الثقافات أقرب إلى الإنسان العامي منه إلى العالم والفيلسوف والمفكر نعم كان الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم علماء مجتهدين إلا أنهم لم ينشؤوا على العلم من صغرهم بل تلقوا العلم على كبر بعد ما تشربوا حياة العامة والقبيلة وأساليب الناس وطبائعهم قد يستثنى منهم سيدنا علي كرم الله وجهه حيث تلقى العلم النبوي صغيرا إلا أنه كان في رحم الأحداث منذ ذلك السن فكان جديرا بامتلاكه كافة الوسائل حيث مارسها في وقت واحد، وهذا سر العظمة في الخلفاء الأوائل تظهر في بعضهم من زمن إلى زمن أما من ينقطع للعلم والفقه والمسائل والمعضلات من صغره فهذا ممن تنطبق عليه نظرية ابن خلدون عندما حكم بعض المفكرين والعلماء في هذا العصر أو شاركوا في الممارسة السياسية وجدنا نسبة كبيرة من هذه النظرية صحيحة، حتى على مستوى المناصب الوزارية في القديم والحديث كان المفكر الألماني هيغل يزعم أن مذهبه أتم التطور الذاتي للفكرة المطلقة، وكان في نفس الوقت عاجزا عن استخراج أية نتائج اجتماعية متماسكة، وقصر نفسه على الأمر الواقع كما يقول بعض المحللين لفكر هيغل، وأعلن هيغل أن الملكية البروسية هي قمة التطور الاجتماعي، وقد كان رغم قامته الفكرية العالمية متناقضا بين مبادئه الثورية ونزعته البرجوازية في التصالح مع الإقطاعية والأرستقراطية ذلك لأن المفكر إذا لامس الواقع وعايشه حاكما أو مشاركا في الحكم أو منظرا له اصطدم مع أفكاره السابقة، فيتحول قهرا أو دون شعور من داعية للحرية إلى طاغية حسب مبادئه هو، وتتحول الأفكار المقدسة إلى أفكار مضادة وتفتح هذه النظرية بابين من الجدل على قضيتين في السياسة الإسلامية والإسلام السياسي أما في السياسة الإسلامية فتفتح الباب أمام قضية اشتراط الاجتهاد والعلم في الحاكم عند الفقهاء لتضعها في محل جدل وإن كانت الأمة قد تركت هذا الشرط بعد زوال الخلافة الراشدة أما الإسلام السياسي فهو تحذير للباحثين عن الحكم تحت مظلة العلم والفكر والنخبوية، إن التجربة التاريخية قد أثبتت عدم صلاحيتهم في الغالب لإدارة شؤون العامة وأن ما حدث من فشل في مصر وتونس والمغرب وأفغانستان هو خير برهان، وليس إفشالا من الخصوم كما هي الشماعات الجاهزة عند أصحاب الفشل