الحج.. آثرت أن ألبي نداء ولي الأمر

قال الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) آل عمران: 97، وروي عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال (يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت عليه الصلاة والسلام، حتى قالها الرجل ثلاثا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم.
ثم قال: ذروني ما تركتكم).

(وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة.

وهذه الشروط تنقسم لثلاثة أقسام: الأول قسم يشترط للصحة، وهو الإسلام والعقل، والثاني للإجزاء، وهو البلوغ والحرية.
والثالث شرط الاستطاعة، ومع ذلك فلو تكلف العاجز الحج أجزأه، لأنه إنما سقط عنه رفقا به - خوفا من أن يكون في الحج عبئا وكلا على الناس لمساءلته إياهم وتثقيله عليهم.

والاستطاعة في حق البعيد: الزاد والراحلة، لما روي عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟ قال "الزاد والراحلة".
والزاد هو ما يحتاج إليه من مأكل ومشرب وكسوة لذهابه ورجوعه، فإن وجد ذلك لذهاب دون رجوع لم يلزمه الحج.

وبالطبع فالذهاب لمريض لمرض لا يرجى برؤه، أو كِبر، يقيم من يحج عنه إن شاء أو يعتمر، لما روى أبو رزين العقيلي، أنه أتى النبي، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الطعن، فقال عليه الصلاة والسلام "حج عن أبيك واعتمر".

وصلوا وسلموا على القائل "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".

وسبحان القائل جلّ في علاه (فمن فرض فيهن الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) البقرة: 197.

وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: الفسوق، المنابذة بالألقاب، تقول لأخيك يا فاسق، يا ظالم، والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

هذا هو الحج عزيزي القارئ، باقة من الحكم وجملة من الآداب والقيم ومنظومة من الأسس والمبادئ، أوجدها الخالق وأوجبها مرة واحدة في العمر .
.

فيها يلتقي المسلمون القادمون من كل فج عميق، وفيها تُشهدُ المنافع، وفيها تتجسد صورة المساواة بين الخلائق وفيها تُهزم الشهوات وتسمو العبادات، وفيها يُرجم اللعين، وفيها تُنحرُ الأضاحي، ليطعم البائس والفقير والمعتر.
.
وفي نهايتها يعود الفائزون من رحلة العمر، كيوم ولدتهم أمهاتهم، مغفورا لهم بإذن الله الذي باهى بهم ملائكته، بعدما جاؤوه شعثا غبرا، يرجون رحمته ويخافون عذابه.

وبالحج أكمل الله لنا الدين وجعله خامس الأركان لمن استطاع إليه سبيلا.
.
واستطاعة السبيل هي بيت القصيد في مقالتي هذه، ومن أجلها أوردت مقدمتي مستشهدا بالآيات الكريمات والأحاديث الشريفة الصحيحة، علّني أصل إلى مقصدي، وأنا أخاطب قارئي العزيز، خاصة والبيت العتيق يشهد أضخم توسعة في تاريخ الدنيا، بعدما اكتملت، ولله الحمد، مشاريع عملاقة أخرى، مثل جسر الجمرات، وأوشك صحن المطاف على الانتهاء من عملية تعدد أدواره، من أجل زوار البيت وعمّاره، من أجل زيادة الطاقة الاستيعابية لضيوف الرحمن، ليس في موسم الحج فقط بعدما صارت مكة المكرمة قبلة للقاصدين طائفين وراكعين وساجدين على مدار العام وفي كل الفصول.
فجزى الله خادم الحرمين الشريفين على ما يواصل من جهد وما ينفق من وقت من أجل المتابعة والرعاية المتواصلة.

وأعتقد جازما أن من واجبنا مواطنين وقادمين أن نثمّن كل هذا من خلال تعاون مفعم بالثقة، مدعم بالقناعة حتى يتم الله فضله بإحسانه وتكتمل لمكة الصورة الفريدة النادرة والتي يحق لكل مسلم ولكل مؤمن أن يفخر بها وأن يتيه بها على الدنيا كلها في جلال ووقار يلائم عظمة البيت ومكانة أم القرى.

وانطلاقا من هذا المبدأ الذي رسمته لنفسي قطعت عليها عهدا ألا أحج رغم أن مهنتي الأساسية مطوف ورغم أني رئيس الغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة وما يتطلبه منصبي هذا من تواجد وإشراف على عشرات، بل مئات الضيوف من منتسبيها الذين يتوافدون كل عام، ورغم أني صاحب قناة "اقرأ"، والتي تقوم بفضل الله بنقل شعائر الحج بلغات حية إلى معظم أنحاء الأرض.

إلا أنني آثرت أن ألبي نداء ولي الأمر، وأن أدعم شعار "لا حج إلا بتصريح" وقد طبّقت هذا منذ عدة سنوات، مؤمنا أن لي في ذلك أجرا لمجرد أنني فضلت أن أتيح للبعيد القادم فرصة ومكانا.
.
آملا في كل مرة أن يكتب الله لي حجة جديدة، أؤديها في سعة من المكان وفسحة من العمر والزمان.
.
وكم أتمنى من كل أهل مكة الكرام أن يكونوا خير عون لحكومتهم وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله ومتعه بمزيد من الصحة والعافية، وحفظ له ولنا سواعده الفتية التي لا تدخر وسعا في خدمة المواطن والقادم والمقيم.
.
لتبقى المملكة العربية السعودية قبلة المحبة والخير والسلام.
.
في عالم نشطت فيه طيور الظلام تحاول عبثا نبش كل أعشاش الطمأنينة، بدافع من جند الشيطان الذين يعيثون في الأرض فسادا، ويتمادون في غيّهم كرها وعنادا.

وكما أننا جميعا كمواطنين نقف إلى جانب دولتنا الرشيدة صفا واحدا في كل الميادين وفي كافة الجبهات، فمن الأولى أن نتكاتف هذه الأيام لنكمل صورة الاهتمام والعناية بضيوف الرحمن، ولنؤكد أن المملكة ليست فقط مشاريع وبنيانا، إنما هي في الحقيقة نبع خير يتفجر دائما على يد الإنسان.
.

إنها الفرصة المباركة لإنسان هذه الأرض الطاهرة، وعليه أن يستغلها لينال من الله الأجر والثواب حين يكون على كل درب يدا تمتد بالعون والمساعدة الصادقة لقاصدي بيت الله الحرام.
وكل عام وأنتم بخير.

saleh@makkahnp.
com