المكاسب السريعة.. الزبد أم ما ينفع الناس

الاثنين - 09 أبريل 2018

Mon - 09 Apr 2018

من طبائع النفس البشرية السعي المستمر للتقدم (والنمو) من حيث المال والقوة والشهرة والنفوذ...إلخ، وهذه سمة طبيعية محمودة تسهم في ازدهار حياة الأفراد والمجتمعات إذا ما تم توظيفها بالشكل الصحيح، وإلا فإنها قد تؤدي إلى تصادم يفضي إلى تدهور، حيث قد يتولد من الرغبة البشرية للنمو، في حال لم يحسن توظيفها، صراعات وكوارث، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ومن ذلك إقدام الفرد على أعمال السرقة والنصب والاحتيال، سعيا لمكاسب مالية سريعة أو التآمر والكيد وغيرهما، سعيا لمكاسب شخصية متفاوتة، فيما قد يندفع بعض المجتمعات عندما تسيطر عليها الرغبات الجامحة مغرورة بما تمتلكه من مقومات أو متلهفة إلى ما تطمح إليه من مكاسب ومطامع، قد تندفع إلى أفعال غير محمودة، والتاريخ يشهد على ما جلبته الأنظمة المعتدية، من أمثال الأنظمة النازية والفاشية، على شعوبها والعالم.

وحيث إن السعي إلى النمو والتقدم هو طبيعة بشرية، فإنه يؤثر في سلوك الأفراد والجماعات (بداية من فرق العمل الصغيرة إلى الدول والشعوب)، لذلك فإنه يجب التكيف معه بل وتوظيفه بالشكل الأمثل سعيا لازدهار الحياة (الفردية والجماعية). ولولا أنه قد تم استغلال وتوظيف هذه الطبيعة البشرية بالشكل السليم لما تحقق عدد من الإنجازات الحضارية (على مستوى الأفراد والجماعات).

توجد عدة مناهج للتقدم والتطور بحيث يمكن تصنيف منهج التقدم والنمو والرقي من حيث السرعة (متأن، متسرع، بطيء)، أو التأثير (شمولي أو محدود) أو التخطيط (مدروس، مرتجل، قابل للتكيف)... إلخ.

من المهم إدراك أن المكاسب قد تتحقق بوتيرة أسرع في حال توفرت شروط ومتطلبات طبيعية لعملية التطور والنمو (التغيير) السليم للأفراد والجماعات، وأحد أهم تلك المتطلبات هو الحد الأدنى من الوقت اللازم لإتمام متطلبات النضج. مثال على ذلك احتياج الجنين إلى عدة شهور لينمو في رحم أمه ويستعد للخروج إلى العالم الخارجي (ولا نعلم بأي محاولة ناجحة، إلى الآن، للتقليل من فترة الحضانة تلك)، وكذلك الأمر في مهمة الحصول على شهادة علمية، أو تعلم لغة جديدة، أو لإتقان مهارات خاصة، أو تغيير عادات وسلوكيات الفرد (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، حيث يتطلب التغيير - على مستوى الفرد والمجتمع- وقتا للنضوج والاستيعاب والتكيف، ومن ثم يتحقق النمو السليم أخلاقيا وسلوكيا وقيميا وإدراكيا... إلخ.

إن النهضة التي شهدها في العصر الحديث بعض المجتمعات البشرية وبعض الشعوب في أوروبا وأمريكا وآسيا خير شاهد على أهمية إتاحة الوقت اللازم لاستيفاء متطلبات النضوج، مع العمل الدؤوب، لتتحقق ديمومة التغير والاستمرار في الوضع الأفضل وعدم حدوث تراجع أو انتكاس، لذلك فإن الهدف دوما يجب أن يكون لتحقيق مكاسب دائمة وتغيير إيجابي راسخ ومتجذر، وذلك يحتاج دوما إلى وقت للنضوج. وفي حين أنه لا حرج في تحقيق مكاسب سريعة أثناء السير نحو الهدف المستدام، إلا أنه ينبغي عدم التركيز فقط على المكاسب السريعة والنتائج الآنية، وإنما يجب الحرص على البناء الدائم الذي يتطلب إتاحة (استثمار) وقت معين (للنضج ومن ثم ترسيخ التغيير).

كذلك فإنه من المهم أن يحقق التغيير مصلحة أكبر عدد من الناس، وفي حين يجب ألا تجني ثمار التغيير مجموعة محدودة فقط من الناس فإنه من المهم ألا يأتي التغيير بضرر على عدد كبير من الناس.

لقد تدرج القرآن الكريم، وهو منهج الرقي الأسمى في تاريخ البشرية، والذي حقق نموا غير مسبوق نحو الرفعة الأكثر تميزا في الحياة الدنيا (وفي الحياة الآخرة كذلك). تدرج في انتزاع العقائد الفاسدة والعادات الضارة، ومحاربة المنكرات التي كان عليها الناس في الجاهلية، وثبت بالتدرج أيضا العقائد الصحيحة، والعبادات، والأحكام، ودعا إلى الآداب السامية والأخلاق الفاضلة، وذلك على مدى عدة سنوات ووفقا للأحداث، وبحسب مستوى نضج المجتمع الإسلامي، ومن الأمثلة على ذلك التدرج في تحريم الخمر، ذلك لأنه يصعب على النفس البشرية (ومن ثم المجتمعات البشرية) التغير من حالة إلى أخرى في وقت قصير (ويستحيل التغير إذا كان الوقت أقصر من الحد الأدنى المطلوب للنضوج). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول الصحابة رضوان الله عليهم بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة عليهم، ومن ثم فقد تم إتاحة (استثمار) الوقت اللازم للتطبيق والممارسة، وبالتالي ترسيخ التغيير وديمومته.

إن مسيرة النمو والازدهار الحضاري في التاريخ الإسلامي تعطي أسمى الصور في التطور والنمو المحمود، حيث انطلقت الدعوة المحمدية السامية بدعوة (تغيير) مجموعة صغيرة (الدائرة الأقرب للرسول عليه الصلاة والسلام)، «وأنذر عشيرتك الأقربين»، ثم توسعت رويدا رويدا لتشمل الدوائر الأوسع بشكل متتال، حيث شملت ما يجاور مكة المكرمة، ثم ما يحيط بالجزيرة العربية، إلى أن بلغت أقاصي الأرض. وكان منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم (المبعوث رحمة للعالمين) بالغ السمو في اللطف «بالحكمة والموعظة الحسنة»، «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، وعنه صلى الله عليه وسلم «إن الله رفيق يحب الرفق»، والميزان في مطالبة الناس بالتغير وفي قيادة التطوير يكون وفق الهدي النبوي الشريف «وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه».

يأتي حديثنا هذا في الوقت الذي تشهد فيه مملكتنا الغالية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، نهضة شاملة لبناء مستقبل أكثر إشراقا تتعدد فيه مصادر الدخل، وتقوم على تمكين الشباب بصفتهم حاملي مشاعل التنمية نحو حضارة أكثر ثباتا ورسوخا، تستثمر مكامن القوة المتعددة لوطننا الغالي، وتتم متابعة مراحل البناء بشكل حثيث من خلال مؤشرات دقيقة تمثل مرحلية الإنجاز نحو تحقيق الأهداف المميزة لرؤية 2030.

وخلاصة القول أن بريق المكاسب السريعة قد لا يدوم طويلا، بينما يتطلب النمو السليم وقتا مقرونا بالجهد والمثابرة، ويجب أن تتحقق فيه مصلحة أكبر مجموعة ممكنة من الناس لضمان ديمومته «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

mtsimsim@