صناع الملل!

الخميس - 22 مارس 2018

Thu - 22 Mar 2018

من أقوى الاستثمارات وأطولها عمرا وأضخمها إنتاجا وأكثرها استدامة وأشملها تنوعا وانفتاحا الاستثمار في البشر، نعم الاستثمار في البشر، فليس هناك من قوى تغلب قوة العقل والإنتاج الناشئ عن جمال التفكير وإبداعه بشرط أن يتم إفساح المجال للسيل الفكري العرم بما يعتريه من فوران وانطلاق وأن يأخذ مساره ومجراه وألا يتم اعتراضه بسدود تمنع معه ما سيرويه وينبته من الخيرات.

ما لفت انتباهي وأثار إعجابي ما تقوم به دبي من جهد متميز بإطلاق مبادرة «صناع الأمل» للدورة الثانية من عمرها وبتوجيه من الشيخ محمد بن راشد لتحفيز العقل العربي، وإنعاش الفكر الجمعي من مختلف أنحاء الدول العربية لنيل جائزة «صانع الأمل»، ففكرة المبادرة تركز على المورد البشري وتحديدا الجانب الإنساني المتوقد، للسعي قدما وبحماس كبير لقطف ثمرة الجهد بنيل الجائزة والتي تقدر بمليون درهم إماراتي، والمشاركة بتنمية المجتمع واستثمار هذه العقول العربية وتدوير أفكارها لصالح مجتمعاتنا ودولنا بما يعود بالنفع العام للشعوب وإسعادهم.

من النواحي الاحترافية والتشويقية للإعلان عن وظيفة لبرنامج «صناع الأمل» تم تصميم نموذج طلب الوظيفة مصحوبا بالوصف الوظيفي لحامل اللقب، ولها أيضا عدة معايير مطلوب تحقيقها لخوض غمار المنافسة الإبداعية وطرح الأفكار الخلاقة وغير المسبوقة؛ فأول هذه الشروط هو أن يكون متحملا للمسؤولية لوظيفة «صانع الأمل»، وأن يكون من الجنسية «العربية» تحديدا، وأن تكون لديه خبرة عملية سابقة في نواح «إنسانية أو مجتمعية»، ولديه مهارات تكمن في قدرته على «بث النظرة الإيجابية للحياة»، ولديه إتقان تام في لغة «العطاء قراءة وكتابة»، والعمر متاح لكل من لديه «فكرة وإنجاز مجتمعي مؤثر»، فالإعلان عن المسابقة لشغل الوظيفة والبحث عن شخص مناسب لتقلد مهامها تعكس أن هنالك منظمة محترفة في أدائها، وراقية في استقطابها للمتقدمين الجدد، وتعمل بشكل مؤسسي وتنظيمي لقطاعات مختلفة تجتمع لمصلحة واحدة وهدف استراتيجي نبيل وتحقيق مطلب ديني وإنساني من خلال الإبداع الفكري المنهمر والتداعي المعرفي الحر، وتتلمس في عالمنا العربي من يمتلكون العقول النيرة والهمم العالية للبحث والتقصي فيما سخره الله لنا لإعمار الأرض والتفكير المستدام لإنفاذ ما أمرنا الله عز وجل به في محكم تنزيله «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» الجاثية 13، وأيضا ما يعززه الخالق جل وعلا في سورة الملك آية 15 «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها»، بضرورة السعي في أرجاء الأرض الميسرة والسهلة والأخذ بالأسباب لاستنباط ما يناسبنا ويعيننا على استمرار الحياة والتنقيب عن الطاقات الدفينة واستخراجها وتحويلها لمنتجات ومخترعات باستخدام العقول وإعمالها وهو ما يطلق عليه الاقتصاد القائم على المعرفة.

تجربة مبادرة دبي لصناع الأمل ما هي إلا فكرة إبداعية ليست نمطية، تعمل على تجميع كل المخترعات والمبادرات والإبداعات والأفكار لمعظم إنتاج العقل العربي، حيث تم عمل قاعدة معرفية مختلفة الأنماط ومتنوعة المهارات البشرية لتشكل في النهاية بنكا معرفيا أو خزنة معرفية يتم الرجوع إليها وقت الحاجة لتصب في مكان واحد والذي يشرف عليه المجلس الاقتصادي الأعلى لمدينة دبي، والذي يعمل على الاستثمار في تلك الأفكار المجمعة وتحويلها إلى واقع تنموي ملموس لخدمة دبي، ولكل من يحتاج من الدول العربية الشقيقة والعالم أجمع وتساعدهم على صنع الأمل.

ما يثير تساؤلاتي كمتخصص في السلوك التنظيمي وإدارة المعرفة وبما أننا نمتلك ولله الحمد في مجتمعنا الخليجي خاصة ومجتمعاتنا العربية عامة الكثير من الشباب والعقول ذوي القدر العالي من الكفاءة والفعالية، فلماذا لا يتم تعميم تجربة مبادرة دبي واقتباسها على مستوى الشركات الوطنية والمنظمات الحكومية والتي تحمل أحيانا علامات تجارية إقليمية وعالمية واسعة الانتشار في عدة مجالات، مثل صناعة الطيران وصناعة البترول والسيارات، وأيضا مراكز الأبحاث كالجامعات والمعاهد، ويقوم تنفيذيو هذه الشركات الوطنية وقادتها وخصوصا ممن يعملون بقطاع الموارد البشرية لتمكنهم وجدارتهم بالاستثمار أكثر في رأس المال البشري وطرح مبادرات جاذبة تعمل على استمالة الأفكار الوطنية وجذبها وإنشاء «مركز معرفي» متنوع التخصصات ليكونوا بعد ذلك «صناع الأمل»، بدلا من خفض الروح المعنوية للموظفين وتجريدهم من الفرص وحرمانهم من الانطلاق الإبداعي والفكري، وتفرد كبار التنفيذيين وقادة الشركات بآرائهم الخاصة ليصبحوا بعد حين «صناع الملل».

Yos123Omar@